تفسير
سورة الاعراف للشعراوي
الترجمة والتفسير
القراءات
السور عن السورة
تفسير سورة سورة الأعراف من كتاب تفسير الشعراوي
المعروف بـتفسير الشعراوي .
لمؤلفه الشعراوي . المتوفي سنة 1418 هـ
قبل أن نبدأ خواطرنا في سورة الأعراف لابد أن نلاحظ
ملاحظة دقيقة في كتاب الله، الله يقول: ﴿إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العقاب وَإِنَّهُ
لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [الانعام: ١٦٥]
ونقرأ الكلمة الأخيرة في سورة الأنعام ﴿رَّحيِمٌ﴾،
ونجدها مبنية على الوصل؛ لأن آيات القرآن كلها موصولة، وإن كانت توجد فواصل آيات،
إلا أنها مبنية على الوصل، ولذلك تجد ﴿غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ وعليها الضمة وبجوارها
ميم صغيرة؛ لأن التنوين إذا جاء بعده باء، يقلب التنوين ميماً، فالميم الصغيرة
موجودة على رحيم، قبل أن تقرأ ﴿بسم الله الرحمن الرَّحِيمِ﴾، وتصبح القراءة: «غفور
رحيم» «بسم الله».
وكل آيات القرآن تجدها مبنية على الوصل، فكأن القرآن
ليس أبعاضاً. وكان من الممكن أن يجعلها سكوناً، وأن يجعل كل آية لها وقف، لا، إنّه
سبحانه أراد القرآن موصولاً، وإن كان في بعض الآيات إقلاب، وفي بعضها إدغام، وهذا
بغُنَّة، وهذا بغير غُنَّة، ويقول الحق:
بسم الله الرحمن الرَّحِيمِ﴿المص﴾
وفي هذه الآية فصل بين كل حرف، فنقرأها: «ألف» ثم
نسكت لنقرأ «لام» ثم نسكت لنقرأ «ميم» ثم نسكت لنقرأ «صاد». وهنا حروف خرقت
القاعدة لحكمة؛ لأن هذه حروف مقطعة، مثل «الم، حم، طه، يس، ص، ق، وكلها مبنية على
السكون مما يدل على أن هذه الحروف وإن الحروف وإن خيل لك أنها كلمة واحدة، لكن لكل
حرف منها معنى مستقل عند الله، وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:»
4035
من قرأ حرفاً من كتاب الله فله حسنةٌ، والحسنة بعشر
أمثالها، لا أقول ألم حرف، ولكن أَلِفٌ حرف، ولامٌ حرف، وَمِيمٌ حرف
«.
والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أشار
إلى أن هذه الحروف بها أمور استقلالية، ولا تكون كذلك إلا إذا كانت لها فائدة يحسن
السكوت والوقوف عليها، فهمها من فهمها، وتعبد بها من تعبد بها، وكل قارئ للقرآن
يأخذ ثوابه بكل حرف، فلو أن قارئاً قال:» أعوذ بالله من الشيطان الرجيم «ونطق بعد
ذلك بحرف أو بأكثر، فهو قد أخذ بكل حرف حسنة، وحين نقرأ بعضاً من فواتح السور، نجد
أن سورة البقرة تبدأ بقوله الحق: ﴿الم﴾ [البقرة: ١]
ونقرأ هنا في أول سورة الأعراف: ﴿المص﴾ [الأعراف: ١]
وهي حروف مقطعة. نطقت بالإِسكان، وبالفصل بين كل حرف
وحرف. ويلاحظ فيها أيضاً أنها لم تقرأ مسميات، وإنما قُرئت أسماء، ما معنى مسميات؟
وما معنى أسماء؟. أنت حين تقول: كتب، لا تقول» كاف «» تاء «» باء «، بل تنطق مسمى
الكاف كَ، واسمها كاف مفتوحة، أما مسماها فهو» كَ «.
إذن فكل حرف له مسمى، أي الصوت الذي يقوله الإِنسان،
وله اسم، والأمي ينطق المسميات، وإن لم يعرف أسماءها. أما المتعلم فهو وحده الذي
يفهم أنه حين يقول: «كتب» أنها مكونة من كاف مفتوحة، وتاء مفتوحة، وباء مفتوحة،
أما الأمي فهو لا يعرف هذا التفصيل.
وإذا كان رسول الله قد تلقى ذلك وقال: ألف لام ميم،
وهو أمي لم يتعلم. فمن قال له انطق مسميات الحروف بهذه الأسماء؟.
4036
لابد أنه قد عُلَّمَهَا وتلقاها، والحق هو القائل:
﴿فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فاتبع قُرْآنَهُ﴾ [القيامة: ١٨]
فالذي سوف تسمعه يا محمد ستقرأه، ولذلك تجد عجائب؛
فأنت تجد «ألم» في أول البقرة، وفي أول سورة آل عمران، ولكنك تقرأ الآية الأولى من
سورة الفيل: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل﴾ [الفيل: ١]
ما الفرق بين الألف واللام والميم في أول سورة
البقرة، وسورة آل عمران وغيرهما، والحروف نفسها في أول سورة الفيل وغيرها كسورة
الشَّرْح؟ أنت تقرأها في أول سورة البقرة وآل عمران أسماء. وتقرأها في أول سورة
الفيل مسميات. والذي جعلك تفرق بين هذه وتلك أنك سمعتها تقرأ في أول البقرة وآل
عمران هكذا، وسمعتها تقرأ في أول سورة الفيل هكذا. إذن فالقراءة توقيف، وليس لأحد أن
يجترئ ليقرأ القرآن دون سماع من معلم. لا، لابد أن يسمعه أولاً حتى يعرف كيف يقرأ.
ونقرأ ﴿المص﴾ في أول سورة الأعراف، وهي حروف مقطعة،
ونعرف أن الحروف المقطعة ثمانية وعشرون حرفاً، ونجد نصفها أربعة عشر حرفاً في
فواتح السور، وقد يوجد منها في أول السورة حرف واحد مثل: ﴿ق والقرآن المجيد﴾ [ق: ١]
وكذلك قوله الحق: ﴿ص والقرآن ذِي الذكر﴾ [ص: ١]
وكذلك قوله الحق:
4037
﴿ن والقلم وَمَا يَسْطُرُونَ﴾ [القلم: ١]
ومرة يأتي من الحروف المقطعة اثنان، مثل قوله الحق:
﴿حم﴾ [الأحقاف: ١]
ومرة تأتي ثلاثة حروف مقطعة مثل: ﴿الم﴾ [البقرة: ١]
ومرة يأتي الحق بأربعة حروف مقطعة مثل قوله الحق:
﴿المص﴾ [الأعراف: ١]
ومرة يأتي بخمسة حروف مقطعة مثل قوله الحق: ﴿كهيعص﴾
[مريم: ١]
وإذا نظرت إلى الأربعة عشر حرفاً وجدتها تمثل نصف
الحروف الأبجدية، وهذا النصف فيه نصف أحكام الحروف، فبعضها منشور، أو مهموس، أو مخفي،
أو مستعلٍ، ومن كل نوع تجد النصف، مما يدل على أنها موضوعة بحساب دقيق، ومع أن
توصيف الحروف، من مستعل، أو مفخم، أو مرقق، أو منشور، أو مهموس، هذا التوصيف جاء
متأخراً عن نزول القرآن، ولكن الذي قاله يعلم ما ينتهي إليه خلقه في هذه الحروف
المقطعة وله في ذلك حكمة، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
أميَّا، ولم يجلس إلى معلم، فكيف نطق بأسماء الحروف، وأسماء الحروف لا يعرفها إلا
من تعلم؟! فهو إذن قد تلقنها، وإننا نعلم أن القرآن جاء متحديَّا العرب؛ ليكون
معجزة لسيد الخلق، ولا يُتَحَدَّى إلا من كان بارعاً في هذه الصنعة.
وكان العرب مشهورين بالبلاغة، والخطابة
4038
والشعر، والسجع وبالأمثال؛ فهم أمة كلام، وفصاحة،
وبلاغة، فجاء لهم القرآن من جنس نبوغهم، وحين يتحدى الله العرب بأنه أرسل قرآناً
لا يستطيعون أن يأتوا بمثله، فالمادة الخام - وهي اللغة - واحدة، ومن حروف اللغة
نفسها التي برع العرب فيها. وبالكلمات نفسها التي يستعملونها، لكنهم عجزوا أن
يأتوا بمثله؛ لأنه جاء من رب قادر، وكلام العرب وبلاغتهم هي من صنعة الإنسان
المخلوق العاجز.
وهكذا نعلم سر الحروف المقطعة التي جاءت لتثبت أن
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تلقى القرآن من الملأ الأعلى لأنه
أمي لم يتعلم شيئاً، لكنه عرف أسماء الحروف، ومعرفة أسماء الحروف لا يعرفها - كما
قلت - إلا المتعلم، وقد علمه الذي علم بالقلم وعلم الإنسان ما لم يعلم، ويمكن
للعقل البشري أن يحوم حول هذه الآيات، وفي هذه الحروف معان كثيرة، ونجد أن الكثير
من المفكرين والمتدبرين لكلام الله وجدوا في مجال جلال وجمال القرآن الكثير، فتجد
متصوفاً يقول إن «المص» جاءت هنا لحكمة، فأنت تنطق أو كلمة ألف وهي الهمزة من
الحلق، واللام تنطقها من اللسان، والميم تنطقها من الشفة، وبذلك تستوعب مخارج الحروف
من الحلق واللسان والشفة.
قال المتصوف ذلك ليدلك على أن هذه السورة تتكلم في
أمور الحياة بدءاً للخلق من آدم. إشارة إلى أولية خلق الإنسان، ووسطاً وهو المعاش،
ونهاية وهو الموت والحساب ثم الحياة في الدار الأخرة، وجاءت «الصاد» لأن في هذه
السورة قصص أغلب الأنبياء.
هكذا جال هذا المتصوف جولة وطلع بها، أنردها عليه؟
لا نردها بطبيعة الحال، ولكن نقول له: أذلك هو كل علم الله فيها؟. لا؛ لأن علينا
أن نتعرف على المعاني التي فيها وأن نأخذها على قدر بشريتنا، ولكن إذا قرأناها على
قدر مراد الله فيها فلن نستوعب كل آفاق مرادات الله؛ لأن أفهامنا قاصرة.
ونحن البشر نضع كلمات لا معنى لها لكي تدل على أشياء
تخدم الحياة، فمثلا نجد في الجيوش من يضع «كلمة سر» لكل معسكر فلا يدخل إلا من يعرف
4039
الكلمة. من يعرف «كلمة السر» يمكنه أن يدخل. وكل
كلمة سر لها معنى عند واضعها، وقد يكون ثمنها الحياة عند من يقترب من معسكر الجيش
ولا يعرفها. ﴿المص﴾ [الأعراف: ١]
ونجد بعد هذه الحروف المقطعة حديثاً عن الكتاب،
فيقول سبحانه: ﴿كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ... ﴾
4040
ﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟ ﰁ
وساعة تسمع «أنزل» فافهم أنه جاء من جهة العلو أي أن
التشريع من أعلى. وقال بعض العلماء: وهل يوجد في صدر رسول الله حرج؟. لننتبه أنه
ساعة يأتي أمر من ربنا ويوضح فيه ﴿فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ﴾، فالنهي ليس
لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وإنما النهي للحرج أو الضيق أن
يدخل لرسول الله، وكأنه سبحانه يقول: يا حرج لا تنزل قلب محمد.
لكن بعض العلماء قال: لقد جاء الحق بقوله سبحانه:
﴿فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ﴾ ؛ لأن الحق يعلم أم محمداً قد يضيق صدره
ببشريته، ويحزن؛ لأنهم يقولون عليه ساحر، وكذاب، ومجنون وإذا ما جاء خصمك وقال فيك
أوصافاً أنت أعلم منه بعدم وجودها فيك فهو الكاذب؛ لأنك لم تكذب ولم تسحر، وتريد
هداية القوم، وقوله سبحانه: ﴿فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ﴾ قد جاء لأمر من
اثنين: إما أن يكون الأمر للحرج ألا يسكن صدر رسول الله، وإما أن يكون الأمر
للرسول طمأنة له وتسكينا، أي لا تتضايق لأنه أنزل إليك من إله، وهل ينزل الله عليك
قرآناً ليصبح منهج خلقه وصراطاً مستقيماً لهم، ثم يسلمك إلى سفاهة هؤلاء؟ لا، لا
يمكن، فاطمئن تماماً. ﴿... فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ
بِهِ وذكرى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأعراف: ٢]
4040
والإِنذار لا يكون إلا لمخالف؛ لأن الإِنذار يكون
إخباراً بشر ينتظر من تخاطبه. وهو أيضاً تذكير للمؤمنين مثلما قال من قبل في سورة
البقرة: ﴿... هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾
وهنا نلاحظ ان الرسالات تقتضي مُرْسِلاً أعلى وهو
الله، ومُرَسَلاً وهو الرسول، ومُرْسَلاً إليه وهم الأمة، والمرسَل إليه إما أن
يستمع ويهتدي وإما لا، وجاءت الآية لتقول: ﴿كِتَابٌ أُنزِلَ﴾ من الله وهو المرسِل،
و «إليك» لأنك رسول والمرسَل إليهم هم الأمة، إما أن تنذرهم إن خالفوا وإما أن
تذكرهم وتهديهم وتعينهم أو تبشرهم إن كانوا مؤمنين.
ويقول الحق بعد ذلك: ﴿اتبعوا مَآ أُنزِلَ...
﴾
4041
ﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯ ﰂ
وما دام العباد سينقسمون أمام صاحب الرسالة والكتاب
الذي جاء به إلى من يقبل الهداية، ومن يحتاج إلى النذارة لذلك يقول لهم: ﴿اتبعوا
مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ [الأعراف: ٣]
وينهاهم عن الشرك وعدم الاستهداء أي طلب الهداية
فيقول: ﴿وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ﴾
[الأعراف: ٣]
وحينما يأتي الحق سبحانه في مثل هذه الآيات ويقول:
«وذكرى». أو «وذكِّر» إنما يلفتنا إلى أن الفطرة المطبوع عليها الإِنسان مؤمنة،
والرسالات كلها لم تأت لتنشئ إيماناً جديداً، وإنما جاءت لتذكر بالعهد الذي أخذ
علينا أيام كنا في عالم الذر، وقبل أن يكون لنا شهوة اختيار:
4041
﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بنيءَادَمَ مِن
ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ
قَالُواْ بلى شَهِدْنَآ... ﴾ [الأعراف: ١٧٢]
هذا هو الإقرار في عالم الذر، إذن فحين يقول الحق:
﴿قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ﴾ فنحن نلتفت إلى ما نسي الآباء أن يبلغوه للأبناء؛
فالآباء يعلمون الأبناء متطلبات حياتهم، وكان من الواجب أن يعلموهم مع ذلك قيم هذه
الحياة التي تلقوها؛ لأن آدم وحواء ما نزلا إلى الأرض قال لهما الحق: ﴿فَإِمَّا
يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتبع هُدَايَ... ﴾ [طه: ١٢٣]
وهكذا نعلم أن هناك «هدى» قد نزل على آدم، وكان من
الواجب على آدم أن يعلمه للأبناء، ويعلمه الأبناء للأحفاد، وكان يجب أن يظل هذا
«الهدى» منقولاً في سلسلة الحياة كما وصلت كل أقضية الحياة. ويأتي سبحانه لنا
بحيثيات الاتباع. ﴿اتبعوا مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ... ﴾ [الأعراف:
٣]
فالمنهج الذي يأتي من الرب الأعلى هو الذي يصلح
الحياة، ولا غضاضة على أحد منكم في أن يتبع ما أنزل إليه من الإله المربي القادر.
الذي ربّى، وخلق من عدم، وأمد من عدم، وهو المتولي للتربية، ولا يمكن أن يربي
أجسادنا بالطعام والشراب والهواء ولا يربي قيمنا بالأخلاق. ﴿وَلاَ تَتَّبِعُواْ
مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ﴾.
ومادام قد أوضح: اتبعوا ما أنزل إليكم من أعلى، فلا
يصح أن تأتي لمن دونه وتأخذ منه، مثلما يفعل العالم الآن حين يأخذ قوانينه من دون
الله ومن هوى البشر. فها يحب الرأسمالية فيفرضها بالسيف، وآخر يحب الاشتراكية
فيفرضها البشر. بالسيف. وكل واحد يفرض بسيفه القوانين التي تلائمه. وكلها دون منهج
الله لأنها أفكار بشر، وتتصادم بأفكار بشر، والأولى من هذا وذاك أن نأخذ مما لا
نستنكف أن نكون عبيداً له.
4042
﴿... وَلاَ
تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ﴾ [الأعراف: ٣]
وتذكر أيها المؤمن أن عزتك في اتباع منهج الله
تتجلّى في أنك لا تخضع لمساوٍ لك، وهذه ميزة الدين الذي يجعل الإنسان يحيا في
الكون وكرامته محفوظةً، وإن جاءته مسألة فوق أسبابه يقابلها بالمتاح له من الأسباب
مؤمناً بأن رب الأسباب سيقدم له العون، ويقدم الحق له العون فعلاً فيسجد لله
شاكراً، أما الذي ليس له رب فساعة أن تأتي له مسألة فوق أسبابه تضيق حياته عليه
وقد ينتحر.
ثم بعد ذلك يبين الحق أن موكب الرسالات سائر من لدن
آدم، وكلما طرأت الغفلة على البشر أرسل الله رسولاً ينبههم. ويوقظ القيم والمناعة
الدينية التي توجد في الذات، بحيث إذا مالت الذات إلى شيء انحرافي تنبه الذات
نفسها وتقول: لماذا فعلت هكذا؟. وهذه هي النفس اللوامة. فإذا ما سكتت النفس اللوامة
واستمرأ الإنسان الخطأ، وصارت نفسه أمارة بالسوء طوال الوقت؛ فالمجتمع الذي حوله
يعدله.
وهذه فائدة التواصي بالحق والصبر، فكل واحد يوصَّى
في ظرف، ويوصِّي في ظرف آخر؛ فحين تضعف نفسه أمام شهوة يأتي شخص آخر لم يضعف في
هذه الشهوة وينصح الإنسان، ويتبادل الإنسان النصح مع غيره، هذا هو معنى التواصي؛
فالوصية لا تأتي من جماعة تحترف توصية الناس، بل يكون كل إنسان موصياً فيما هو فيه
قوي، ويوصي فيما هو فيه ضعيف، فإذا فسد المجتمع، تتدخل السماء برسول جديد ومعجزة
جديدة، ومنهج جديد، لكن الله أمن أمة محمد على هذا الأمر فلم يجيء رسول بعده لأننا
خير أمة أخرجت للناس. والخيرية تتجلى في أننا نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر،
فالتواصي باقٍ إلى أن تقوم الساعة. ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ
تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر... ﴾ [آل عمران: ١١٠]
4043
وهذه خاصية لن تنتهي أبداً، فإن رأيت منكراً فلابد
من خلية خير تنكره وتقول: لا، وإذا كان الحق قد جعل محمداً خاتم الرسل، فذلك شهادة
لأمته أنها أصبحت مأمونة، وأن المناعة الذاتية فيها لا تمتنع وتنقطع، وكذلك لا
تمتنع منها أبداً المناعة الاجتماعية فلن يأتي رسول بعد سيد الخلق محمد صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
ويقول الحق بعد ذلك: ﴿وَكَم مِّن قَرْيَةٍ...
﴾
4044
ﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺ ﰃ
وساعة تسمع «كم» فاعرف أن المسألة خرجت عن العد بحيث
تستوجب أن تستفهم عنها، وهذا يدل على أمر كثير فوق العدد، لكن عندما يكون العدد
قليلاً فلا يستفهم عنه، بل يعرف. والقرية اسم للمكان المعد إعداداً خاصاً لمعيشة
الناس فيه. وهل القرى هي التي تهلك أم يهلك من فيها؟. أوضح الحق أنها تأتي مرة
ويراد منها المكان والمكين: أو يكون المراد بالقرية أهلها، مثال ذلك قوله الحق في
سورة يوسف: ﴿وَسْئَلِ القرية التي كُنَّا فِيهَا والعير... ﴾ [يوسف: ٨٢]
وبطبيعة الحال لن يسأل إنسان المكان أو المباني، بل
يسأل أهل القرية، ولم يقل الحق: اسأل أهل القرية؛ لأن المسئول عنه هو أمر بلغ من
الصدق أن المكان يشهد مع المكين، ومرة أخرى يوضح الحق أنه يدمر القرية بسكانها
ومبانيها. ﴿وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا﴾.
وأيهما يأتي أولاً: الإهلاك أم يأتي البأس أولاً
فيهلك؟. الذي يأتي أولاً هو البأس فيهلك، فمظاهر الكونيات في الأحداث لا يأتي
أمرها ارتجالاً، وإنما أمرها مسبق أزلاً، وكأن الحق يقول هنا: وكم من قرية حكمنا
أن نهلكها فجاءها بأسنا ليتحقق ما قلناه أزلاً، أي أن تأتي الأحداث على وفق
المرادات؛ حتى ولو كان هناك اختيار للذي يتكلم عنه الحق.
4044
ونعلم أن القرية هي المكان، وعلى ذلك فليس لها
اختيار. وإن كان لمن يتحدث عنه الله حق الاختيار، فسبحانه يعلم أزلاً أنه سيفعل ما
يتحدث عنه سبحانه. ويأتي به في قرآن يتلى؛ ليأتي السلوك موافقاً ما أخبر به الله.
﴿وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ
قَآئِلُونَ﴾ [الأعراف: ٤]
والبأس هو القوة التي ترد ولا تقهر، و «بيتاً» أي
بالليل، ﴿أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ﴾ أي في القيلولة. ولماذا يأتي البأس في البيات أو
في القيلولة؟. ونجد في خبر عمّن أَهْلِكُوا مثل قوم لوط أنّه حدث لهم الهلاك
بالليل، وقوم شعيب حدث لهم الهلاك في القيلولة، والبيات والقيلولة هما وقت
الاسترخاء ووقت الراحة وتفاجئهم الأحداث فلا يستطيعون أن يستعدوا. ﴿فَإِذَا نَزَلَ
بِسَاحَتِهِمْ فَسَآءَ صَبَاحُ المنذرين﴾ [الصافات: ١٧٧]
أي يأتيهم الدمار في وقت هم نائمون فيه، ولا قوة لهم
لمواجهة البأس. ﴿... فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ﴾
[الأعراف: ٤]
وإذا قال سبحانه: ﴿بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ﴾
فيصح أن لهذه القرية امتدادات، ووقت القيلولة عند جماعة يختلف عن وقت من يسكن
امتداد القرية، فيكون الوقت عندهم ليلاً، والقيلولة هي الوقت الذي ينامون فيه
ظهراً للاسترخاء والراحة. ولكن كيف استقبلوا ساعة مجيء البأس الذي سيهلكهم؟.
ويقول الحق سبحانه: ﴿فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ...
﴾
4045
ﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇ ﰄ
بهذا القول اتضحت المسألة، ومن قوله ﴿دَعْوَاهُمْ﴾
نفهم أن المسألة ادعاء. ونحن نقول: فلان ادّعى دعوى على فلان، فإما أن يقيم بينة
ليثبت دعواه، وإما ألاّ يقيم.
والدعوى تطلق أيضاً على الدعاء: ﴿... وَآخِرُ
دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين﴾ [يونس: ١٠]
وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿فَمَا كَانَ
دَعْوَاهُمْ إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَآ إِلاَّ أَن قالوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾
[الأعراف: ٥]
ويشرح ربنا هذا الأمر في آيات كثيرة، إنه اعتراف
منهم باقترافهم الظلم وقيامهم عليه، فسبحانه القائل: ﴿وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا
نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا في أَصْحَابِ السعير فاعترفوا بِذَنبِهِمْ
فَسُحْقاً لأَصْحَابِ السعير﴾ [الملك: ١٠ - ١١]
ويقول الحق بعد ذلك: ﴿فَلَنَسْأَلَنَّ الذين
أُرْسِلَ... ﴾
ﮉﮊﮋﮌﮍﮎ ﰅ
والحق يسأل الرسل بعد أن يجمعهم عن مدى تصديق
أقوامهم لهم، والسؤال إنما يأتي للإِِقرار، ومسألة السؤال وردت في القرآن بأساليب
ظاهر أمرها أنها متعارضة، والحقيقة أن جهاتها منفكة، وهذا ما جعل خصوم القرآن
يدعون أن
4046
القرآن فيه تضارب. فالحق سبحانه يقول: ﴿فَإِذَا
نُفِخَ فِي الصور فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ﴾
[المؤمنون: ١٠١]
ويقول سبحانه أيضاً ﴿وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ
حَمِيماً﴾ [المعارج: ١٠]
ويقول جل وعلا: ﴿... وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ
المجرمون﴾ [القصص: ٧٨]
ويقول سبحانه وتعالى: ﴿فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ
عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ﴾ [الرحمن: ٣٩]
ثم يقول هنا: ﴿فَلَنَسْأَلَنَّ الذين أُرْسِلَ
إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ المرسلين﴾ [الأعراف: ٦]
وهذا ما يجعل بعض المستشرقين يندفعون إلى محاولة
إظهار أن بالقرآن - والعياذ بالله - متناقضات. ونقول لكل منهم: أنت تأخذ القرآن
بغير ملكة البيان في اللغة، ولو أنك نظرت إلى أن القرآن قد استقبله قوم لسانهم
عربي، وهم باقون على كفرهم فلا يمكن أن يقال إنهم كانوا يجاملون، ولو أنهم وجدوا
هذا التناقض، أما كانوا يستطيعون أن يردوا دعوى محمد فيقولوا: أيكون القرآن معجزا
وهو متعارض؟! لكن الكفار لم يقولوها، مما يدل على أن ملكاتهم استقبلت القرآن بما
يريده قائل القرآن. وفي أعرافنا نورد السؤال مرتين؛ فمرة يسأل التلميذ أستاذه
ليعلم، ومرة يسأل الأستاذ تلميذه ليقرر.
4047
إذن فالسؤال يأتي لشيئين اثنين: إما أن تسأل لتتعلم،
وهذا هو الاستفهام، وإما أن تسأل لتقرر حتى تصبح الحجة ألزم للمسئول، فإذا كان
الله سيسأله، أي يسأله سؤال إقرار ليكون أبلغ في الاحتجاج عليه، وبعد ذلك يقولون:
﴿وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا في أَصْحَابِ السعير
فاعترفوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقاً لأَصْحَابِ السعير﴾ [الملك: ١٠ - ١١]
وهذا اعتراف وإقرار منهم وهما سيدا الأدلة؛ لأن كلام
المقابل إنما يكون شهادة، ولكن كلام المقر هو إقرار اعتراف.
إذن إذا ورد إثبات السؤال فإنه سؤال التقرير من الله
لتكون شهادة منهم على أنفسهم، وهذا دليل أبلغ للحجة وقطع للسبل على الإِنكار. فإما
أن يقر الإِنسان، وإن لم يقر فستقول أبعاضه؛ لأن الإِرادة انفكت عنها، ولم يعد
للإِنسان قهر عليها، مصداقاً لقوله الحق: ﴿وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ
شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قالوا أَنطَقَنَا الله الذي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ... ﴾
[فصلت: ٢١]
والحق هنا يقول: ﴿فَلَنَسْأَلَنَّ الذين أُرْسِلَ
إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ المرسلين﴾.
وهو سؤال للإِقرار. قال الله عنه: ﴿يَوْمَ يَجْمَعُ
الله الرسل فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ... ﴾ [المائدة: ١٠٩]
وحين يسأل الحق المرسلين، وهم قد أدوا رسالتهم فيكون
ذلك تقريعاً للمرسَل إليهم.
ويقول الحق بعد ذلك:
4048
﴿فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ...
﴾
4049
ﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖ ﰆ
أي سيخبرهم بكل ما عملوا في لحظة الحساب؛ لأنه
سبحانه لم يغب يوماً عن أي من خلقه؛ لذلك قال: ﴿وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ﴾، ونعلم
أن الخلق متكرر الذوات، متكرر الأحداث، متكرر المواقع، هم ذوات كثيرة، وكل ذات لها
حدث، وكل ذات لها مكان. فإذا قال الحق للجميع: ﴿وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ﴾ أي أنه
مع الجميع، ومادام ليس بغائب عن حدث، ولا عن فاعل حدث، ولا عن مكان حدث، وهؤلاء
متعددون. إذن هو في كل زمان وفي كل مكان.
وإن قلت كيف يكون هنا وهناك؟ أقول: خذ ذلك في إطار
قوله: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾، ومثل هذه المعاني في الغيبيات لا يمكن أن
تحكمها هذه الصور. والأمر سبق أن قلناه حين تحدثنا عن مجيء الله؛ فله طلاقة القدرة
وليس كمثله شيء، وما كان غائباً في حدث أو مكان.
ويقول الحق بعد ذلك: ﴿والوزن يَوْمَئِذٍ...
﴾
ﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡ ﰇ
في هذه الآيات نجد الحديث عن الوزن للأعمال، وهذا
كله تأكيد للحجة عليهم؛ فالله لا يظلم أحداً، وفي وزن الأعمال إبطال للحجة من
الذين يخافون النار، ولم يؤدوا حقوق الله في الدنيا، وكل ذلك ليؤكد الحجة، ويظهر
الإنصاف ويقطع العذر، وهنا قول كريم يقول فيه الحق سبحانه: ﴿وَنَضَعُ الموازين
القسط لِيَوْمِ القيامة... ﴾ [الأنبياء: ٤٧]
4049
هذه الموازين هي عين العدل، وليست مجرد موازين
عادلة، بل تبلغ دقة موازين اليوم الآخر أنها هي عدل في ذاتها. وهنا يقول الحق:
﴿والوزن يَوْمَئِذٍ الحق﴾. نعم، الميزان في هذا اليوم حق ودقيق، لنذكر انه قال من
قبل: ﴿مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَآءَ بالسيئة فَلاَ
يجزى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾ [الأنعام: ١٦٠]
والميزان الحق هو الذي قامت عليه عدالة الكون كله،
وكل شيء فيه موزون، وسبحانه هو الذي يضع المقادير على قدر الحكمة والإِتقان والدقة
التي يؤدي بها كل كائن المطلوبَ منه، ولذلك يقوله سبحانه: ﴿والسمآء رَفَعَهَا
وَوَضَعَ الميزان﴾ [الرحمن: ٧]
ولم نر السماء قذفت وألقت علينا أحداثاً غير متوقعة
منها، فالكون له نظام دقيق. والوزن في يوم القيامة هو مطلق الحق، ففي هذا اليوم
تبطل موازين الأرض التي كانت تعاني إما خللاً في الآلة التي يوزن بها، وإمّا خللاً
في الوزن، وإمّا أن تتأثر بأحداث الكون، وما يجري فيه من تفاعلات، أما ميزان
السماء فلا دخل لأحد به ولا يتأثر إلا بقيمة ما عمل الإِنسان، وساعة يقول سبحانه:
﴿والوزن يَوْمَئِذٍ الحق﴾.
فكأن الميزان في الدنيا يمكن أن يحصل فيه خلل، وكذلك
المِلْك أيضاً؛ لأنه سبحانه أعطى أسباباً للملك المناسب لكل إنسان، فهذا يملك كذا،
والثاني يملك كذا، والثالث يملك كذا، وبعد ذلك يتصرف كل إنسان في هذا الملك إن
عدلاً، وإن ظلماً على ضوء الاختيار. لكن حين يأتي اليوم الآخر فلا ملك لأحد: ﴿...
لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار﴾ [غافر: ١٦]
فالأمر حينئذ يكون كله لله وحده، فإن كان الملك في
الدينا قد استخلف فيه الحق
4050
عباده، فهذه الولاية تنتهي في اليوم الآخر: ﴿فَمَن
ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فأولئك هُمُ المفلحون﴾.
وسبحانه هو القائل: ﴿فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ
مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ
فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ﴾ [القارعة: ٦ -
١١]
إذن فالميزان يثقل بالحسنات، ويخف بالسيئات، ونلحظ
أن القسمة العقلية لإِيجاد ميزان ووزان وموزون تقتضي ثلاثة أشياء: أن تثقل كفة،
وتخف الأخرى، أو أن يتساويا، ولكن هذه الحال غير موجودة هنا. ويتحدث الحق عن الذين
تخف موازينهم فيقول سبحانه وتعالى: ﴿وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ...
﴾
4051
ﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭ ﰈ
والسورة السابقة جاء فيها بالحالتين، وفي هذه السورة
أيضاً جاء بالحالتين، ومن العجيب أن هذا الكلام عن الثقل والخفة وعدم وجود الحالة
الثالثة وهي حالة تساوي الكفتين يأتي في أول سورة الأعراف، ولكنه - سبحانه يقول
بعد ذلك في سورة الأعراف: ﴿وَعَلَى الأعراف رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ
بِسِيمَاهُمْ﴾.
وهؤلاء هم الذين استوت حسناتهم وسيئاتهم، وقد جعل
لهم ربنا مكاناً يشبه عرف الفرس، وعرف الفرس يعتبر أعلى شيء فيه، فحينا يأتي شعر
الفرس يميناً، وحينا يأتي شعر الفرس يساراً، وليس هناك جهة أولى بالشعر من الأخرى.
وقد أعد الحق لأصحاب الأعراف مكاناً يسمعون فيه أصحاب النار وهم ينادون أصحاب
الجنة، وأصحاب الجنة وهم ينادون أصحاب النار، وأصحاب الأعراف
4051
يجلسون؛ لا هم في الجنة ولا هم في النار، فهم الذين
تساوت حسناتهم وسيئاتهم، وبذلك صحت القسمة العقلية في قول الحق سبحانه وتعالى:
﴿وَعَلَى الأعراف رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ﴾ [الأعراف: ٤٦]
فلا الحسنات ثقلت ليدخلوا الجنة، ولا السيئات خفت
ليدخلوا النار، فميزانهم تساوت فيه الكفتان. وقال بعض العلماء عن الميزان؛ إن هناك
ميزاناً بالفعل. وقال البعض إن المراد بالميزان هو العدالة المطلقة التي أقامها
العادل الأعلى، والأعجب أن الحق قال: إن هناك موازين، فهل لكل واحد ميزان أو لكل
عمل من أعمال التكليفات ميزان: ميزان العقائد، وميزان الأحكام.. إلخ، وهل سيحاسبنا
ربنا تباعاً. أو أن هناك موازين متعددة، بدليل أن سيدنا الإِمام عليًّا عندما سألوه:
أيحاسب الله خلقه جميعاً في وقت واحد؟ فقال: وأي عجب في هذا؟ أليس هو رازقهم في
وقت واحد؟ إذن فالميزان بالنسبة لله مسألة سهلة جدًّا. وهيّنة فسبحانه لا يتأبى
عليه شيء. ﴿وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فأولئك الذين خسروا أَنْفُسَهُم بِمَا
كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ﴾ [الأعراف: ٩]
نعم هم قد خسروا أنفسهم فكل منهم كان يأخذ شهوات
ويرتكب سيئات يمتع بها نفسه، ويأتي اليوم الآخر ليجد نفسه قد خسر كل شيء، وكما
يقول المثل العام: خسر الجلد والسقط. لماذا؟ تأتي الإِجابة من الحق: ﴿... بِمَا
كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ﴾.
ويقول سبحانه بعد ذلك: ﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي...
﴾
4052
ﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛ ﰉ
المُمَكَّن هو الذي يحتل المكان بدون زحزحة؛ فيقال
مكّنتك من كذا. أي أعطيتك المكان ولا ينازعك أحد فيه. وقد مكننا سبحانه في الأرض
وجعل لنا فيها وسائل استبقاء الحياة، وترف الحياة، وزينة الحياة، ورياش الحياة،
ولم تبخل الأرض حين حرثناها، بل أخرجت لنا الزرع، ولم تغب الشمس عنا بضوئها
وإشعاعها وحراراتها. ما في الدنيا يؤدي مهمته، ولم نُمكَّن في الأرض بقدراتنا بل
بقدرة الله. وكان يجب ألا يغيب ذلك عن أنظارنا أبداً. فلا أحد منا مسيطر على الشمس
أو القمر أو الريح أو الأرض، ولكن الذي خلقها وجعلها مسخرة، هو ربك وربها؛ فأنت
مُمَكَّن، وكل شيء مستجيب لك. بتسخير الله له. ﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأرض
وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ﴾ [الأعراف: ١٠]
و «معايش» جمع معيشة، والمعيشة هي الحياة، فالعيش هو
مقومات الحياة، ولذلك سموا الخبز في القرى عيشاً لأن عندهم دقة بالغة؛ لأنهم عرفوا
أنه مقوّم أساسي في الحياة.
وقول الحق: ﴿قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ﴾ دل على أن
هناك من يشكر، ومن الناس من يشكر نعم الله شكراً عاماً على مجموع النعم، أو يشكره
شكراً خاصًّا عند كل نعمة، ومنهم من يشكر شكراً خاصًّا لا عند كل نعمة، ولكن عند
جزئيات النعمة الواحدة، فعندما يبدأ في الأكل يقول: «بسم الله الرحمن الرحيم»،
ويقول بعد الأكل: «الحمد لله» ؛ وهناك من يقول عند تناول لقمة واحدة: «بسم الله»
وعندما يمضغها ويبلعها يقول: «الحمد لله» لأنها لم تقف في حلقه، وأيضاً حين نشرب
علينا أن نشرب على ثلاث دفعات: أول دفعة نقول: «بسم الله». وننتهي منها فنقول:
«الحمد لله» وكذلك في الدفعة الثانية والدفعة الثالثة. ومن يفعل ذلك فلا تتأتَّى
منه معصية، مادامت آثار شربة الماء هذه في جسمه؛ لأنها كلها «بسم الله». فتحرسه من
الخطيئة؛ لأن النعمة الواحدة لو استقصيتها لوجدت فيها نعما كثيرة.
وأنتم حين لا تشكرون إنما تضيقون عليكم أبواب النعم
من الله؛ لأنكم
4053
لو شكرتموه على النعم لزادت النعم عليكم، ﴿لَئِن
شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ﴾ ومن الحمق ألا نشكر.
ويقول الحق بعد ذلك: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ...
﴾
4054
ﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬ ﰊ
ومسألة الخلق سبق أن تقدمت في سورة البقرة: خلق آدم،
والشيطان، والقضية تتوزع على سبع سور، في سبعة مواضع موجودة في سورة البقرة، وسورة
الأعراف، وسورة الحج، وسورة الإسراء، وسورة الكهف، وسورة طه، وسورة ص، إلا أن
القصة في في كل موضع لها لقطات متعددة، فهنا لقطة، وهناك لقطة ثانية، وتلك لقطة
ثالثة، وهكذا؛ لأن هذه نعمة لابد أن يكررها الله؛ لتستقر في أذهان عباده، ولو أنه
ذكرها مرة واحدة فقد تُنسى، لذلك يعيد الله التذكير بها أكثر من مرة. وإذا أراد
الله استحضار النعم والتنبيه عليها في أشياء، فهو يكررها كما كررها في استحضار
النعم في سورة واحدة في قوله سبحانه: ﴿فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾.
إنه يذكر هذه النعم من بدايتها، فيقول: {خَلَقَ
الإنسان مِن صَلْصَالٍ كالفخار وَخَلَقَ الجآن مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ فَبِأَيِّ
آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ رَبُّ المشرقين وَرَبُّ المغربين فَبِأَيِّ آلاء
رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ مَرَجَ البحرين يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ
يَبْغِيَانِ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يَخْرُجُ مِنْهُمَا
الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
4054
وَلَهُ الجوار المنشئات فِي البحر كالأعلام
فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ويبقى وَجْهُ
رَبِّكَ ذُو الجلال والإكرام فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: ١٤
- ٢٨]
وكل نعمة يقول بعدها: ﴿فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا
تُكَذِّبَانِ﴾
وأراد سبحانه بذلك أن يكثر ويردد تكرارها على الآذان
لتستقر في القلوب حتى في الآذان الصماء؛ فمرة يأتي بها في شيء ظاهره أنه ليس نعمة،
مثل قوله: ﴿يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ
تَنتَصِرَانِ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ [الرحمن: ٣٥ - ٣٦]
وجاء الحق بذكر كل ذلك؛ لأنه ساعة يجلي لنا الأمور
على حقائقها ونحن في دار التكليف فهذه رحمة ونعمة منه علينا؛ لأن ذلك يدعونا إلى
اتقاء المحظورات والبعد والتنحي عن المخالفات.
ولله المثل الأعلى من قبل ومن بعد، فحين يدخل الابن
إلى المدرسة نقول له: إن قصرت في كذا فسوف ترسب، وأنت بهذا القول ترحمه بالنصيحة،
فلم تتركه دون أن تبصره بعواقب الأمور، وأيضا ساعة ترى شراً يحيق بالكافرين، فإن
هذا الأمر يسرك، لأنه لو تساوى الكافرون مع المؤمنين لما كان للإيمان فضل أو ميزة،
فالعذاب نقمة على الكافر، ونعمة على المقابل وهو المؤمن.
وقد جاءت قصة خلق آدم بكل جوانبها في القرآن سبع
مرات؛ لأنها قصة بدء الخلق، وهي التي تجيب عن السؤال الذي يبحث عن إجابته الإنسان؛
لأنه تلفت ليجد نفسه في كون معد له على أحسن ما يكون. ولم يجيء الكون من بعد
الإنسان، بل طرأ الإنسان على الكون، وظل السؤال وارداً عن كيفية الخلق،
4055
والسؤال مهم أهمية وجود الإنسان في الكون، فأنت
تستقرئ أجناساً في الكون، وكل جنس له مهمة، ومهمته متعلقة بك، جماد له مهمة، ونبات
له مهمة، وحيوان له مهمة، وكلها تصب في خدمتك أنت؛ لأن الجماد ينفع النبات، ويتغذى
منه لكي يغذي الحيوان، والحيوان ينفعك ويغذيك، إذن فكل الأجناس تصب في خدمتك.
أمّا أنت أيها الإِنسان فما عملك في هذا الكون؟؛
لذلك كان لابد أن يتعرف الإِنسان على مهمته. وأراد الحق سبحانه أن يُعرِّف
الإِنسان مهمته؛ لأنه جل وعلا هو الصانع، وحين يبحث الإِنسان عن صانعه تتجلى له
قدرة الله في كل ما صنع. وكان لابد أيضاً أن يستقبل الإِنسان خبراً من الخالق. إنه
- سبحانه - يُنزل لنا المنهج من السماء ويصاحب هذا المنهج معجزة على يد رسول، وأنزل
الحق عليه المنهج وأوكل له مهمة البلاغ. فالرسول يخبر، ثم نستدل بالمعجزة على صدق
خبره. فكان من اللازم أن نصدق الرسول، لأنه قادم بآية ومعجزة من الله.
والرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ جاء
بالرسالة في سن الأربعين ومعه المنهج المعجزة، وأبلغنا أنه رسول من الله. وكان
لابد أن نبحث لنتثبت من صدق البلاغ عن الله بالتعقل في دعواه؛ فهذا الرسول جاء بعد
أربعين سنة من ميلاده ومعه معجزة من جنس ما نبغ فيه قومه، وليس من جنس ما نبغ فيه
هو، إن معجزته ليست من عنده، بل هي من عند الله؛ لأن الرسول جاء بالمعجزة بعد
أربعين سنة من ميلاده، ومن غير المعقول أن تتفجر عبقرية بعد أربعين سنة من
الميلاد؛ لأننا نعلم أن العبقريات تأتي في آخر العقد الثاني وأوائل العقد الثالث
من عمر الإِنسان، ونلتفت فنجده يتكلم كل الكلام البلاغي المعجز. وليس من المعقول
ان يأتي بأخبار الكون وهو الأمي الذي مات أبوه وهو في بطن أمه، ثم ماتت أمه وهو في
السادسة، وكذلك مات جده. ورأى الناس يتساقطون من حوله، فمن الذي أدراه - إذن - انه
سيمهل ويمد في أجله إلى أن يصل إلى الأربعين ليبلغنا بمعجزته؟.
ولذلك نجد القرآن يستدل على هذه، فيقول: {وَإِذَا
تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا ائت
بِقُرْآنٍ غَيْرِ هاذآ
4056
أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لي أَنْ
أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نفسي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ إني
أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [يونس: ١٥]
وهكذا تتجلى الحجة القوية من أنه صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مكلف بالبلاغ بما يُوحَى إليه، ويتأكد ذلك مرة ثانية في قوله
الحق: ﴿قُل لَّوْ شَآءَ الله مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ
فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ [يونس: ١٦]
وهنا نجد أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ قد تلقى الأمر من الله بأن يبيّن لهم: هل علمتم عني خلال عمري أني قلت
شعراً أو حكمة أو جئتكم بمثل؟ إذن إن نحن عقلنا الأمر وتبصرنا وتأملنا دعواه
لصدقنا أنه رسول الله، وأن المعجزة نزلت عليه من السماء.
﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ
قُلْنَا للملائكة اسجدوا لأَدَمَ فسجدوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِّنَ
الساجدين﴾ [الأعراف: ١١]
وهكذا نرى أن مسألة الخلق والإِيجاد، كان يجب على
العقل البشري أن يبحث فيها، ليعلم مهمته في الوجود. وحين يبحث فيها ليعلم مهمته في
الوجود. يجب عليه أن يترك كل تخمين وظنٍ؛ لأن هذه المسألة لا يمكن أن تأتي فيها
بمقدمات موجودة لتدلنا على كيفية خلقنا ولا لأي شيء ومهمة خلقنا! فكيفية الخلق
كانت أمراً غيبيًّا وليس أمامنا ما نستقرئه لنصل إلى ذلك. وقد حكم الله في قضية
الخلق، سواء أكان الأمر بالنسبة للسموات والأرض وما بينهما أم للإِنسان، وقد حكم
سبحانه في هاتين القضيتين، ولا مصدر لعلم الأمر فيهما إلا من الله سبحانه، وأغلق
باب الاجتهاد فيها، وكذلك باب التخمين، وسمى القائمين بكل بحث بشري في هذا المجال بأنهم
ضالون مضللون، ولذلك قال ليحكم هذه
4057
القضية ويحسمها، ويريح العقول من أن تبحث فيها؛ قال:
﴿مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السماوات والأرض وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا
كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُداً﴾ [الكهف: ٥١]
فكأن الذي يقول: كيف خلقت السموات والأرض وكيف خلق
الإِنسان هو مضل؛ لأن الله لم يشهده، ولم يكن القائل عضداً لله ولا سنداً ولا
شريكا له.
وقص سبحانه علينا قصة خلق السموات والأرض وخلق
الإِنسان، وهذه الآية تتعرض لخلق الإِنسان. ومن يبحث بحثاً استقرائيّاً ويرجع إلى
الوراء فلابد أن يجد أن الأمر منطقي؛ لأن العالم يتكاثر، وتكاثره أمر مرئي، وليس
التكاثر في البشر فقط، بل فيمن يخدمون البشر من الأجناس الأخرى، نجد فيهم ظاهرة
التكاثر نباتاً وحيواناً، وإذا ما نظرنا إلى التعداد من قرن وجدنا العدد يقل عن
التعداد الحالي وهو خمسة آلاف مليون، وكلما عدنا ورجعنا إلى الزمن الماضي يقل
التعداد إلى أن نصل إلى اثنين؛ لأن الخلق إنما يأتي من اثنين، وحلّ الله لنا اللغز
فقال: ﴿الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا... ﴾
[النساء: ١]
وهذا كلام صحيح يثبته الإِحصاء وييقنه؛ لأن العالم
يتكاثر مع مرور الزمن مستقبلا. ﴿وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً...
﴾ [النساء: ١]
وهذا كلام صادق. وسبحانه القائل: ﴿وَمِن كُلِّ
شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ... ﴾ [الذاريات: ٤٩]
4058
وأبلغنا سبحانه بقصة خلق آدم، وكيفية خلق حوّاء فهل
أخذ جزءًا من آدم وخلق منه حوّاء؟ قد يصح ذلك، أو خلق منها زوجها ويكون المقصود به
أنه خلقها من الجنس نفسه وبالطريقة نفسها؟ وذلك يصح أيضا، فسبحانه قد اكتفى بذكر
خلق آدم عن ذكر خلق حوّاء، وأعطانا النموذج في واحد، وقال: ﴿وَخَلَقَ مِنْهَا
زَوْجَهَا﴾.
و ﴿مِنْهَا﴾ في هذه الآية يحتمل أن تكون غير تبعيضية،
مثلها مثل قوله الحق: «رسول من أنفسكم».
فسبحانه لم يأخذ قطعة من العرب وقال: إنها «محمد»،
بل جعل محمدًّا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من الجنس نفسه خلقاً وإيجاداً،
وسبحانه حين يتكلم هنا يقول للملائكة: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً... ﴾
[البقرة: ٣٠]
وهذا أول بلاغ، ثم اتبع ذلك: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ
وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ﴾ [الحجر: ٢٩]
إذن فقبل النفخ في الروح ستوجد تسوية، فلمن تحدث
التسوية، ومن هو «المسوّى منه» ؟. إن التسوية لآدم. وجاء القول بأنه من صلصال، ومن
حمأ مسنون، ومن تراب، ومن طين؛ إنّها مراحل متعددة، فإن قال سبحانه عن آدم: إنه
تراب، نقول: نعم، وإن قال: «من ماء» نقول: نعم، وإن قال «من طين» فهذا قول حق؛ لأن
الماء حين يختلط بالتراب يصير طيناً. وإن قال: ﴿مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ﴾، فهذا
جائز؛ لأن الحمأ طينٌ اختمر فتغيرت رائحته ثم جف وصار صلصالاً. إذن فهي مراحل
متعددة للخلق، ثم قال الحق: ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي﴾.
وهكذا تكتمل فصول الخلق، ثم قال: ﴿فَقَعُواْ لَهُ
سَاجِدِينَ﴾.
4059
ويقول العلماء: إن المراد من السجود هو الخضوع
والتعظيم، وليس السجود كما نعرفه، وقال البعض الآخر: المراد بالسجود هو السجود
الذي نعرفه، وأن آدم كان كالقبلة مثل الكعبة التي نتجه إليها عند الصلاة. ولكنْ
لنا هنا ملاحظة، ونقول: إننا لا نسجد إلا الله، ومادام ربنا قد قال: اسجدوا
فالسجود هنا هو امتثال لأمر خالق آدم. والنية إذن لم تكن عبادة لآدم، ولكنها طاعة
لأمر الله الأول. والأمر بالسجود لآدم قد أراده الله؛ لأنه سبحانه سخر الكون كله
لخدمة آدم، ومن الملائكة مدبرات أمر، ومنهم حفظة، ومنهم من هو بين يدي الله، فلم
يكن السجود للملائكة خضوعاً من الملائكة لآدم، بل هو طاعة لأمر الله، ولذلك سجد من
الملائكة الموكلون بالأرض وخدمة الإنسان، لكنْ الملائكة المقربون لا يدرون شيئاُ
عن أمر آدم، ولذلك يقول الحق لإِبليس: ﴿... أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ
العالين﴾ [ص: ٧٥}
والمقصود بالعالين الملائكة الذين لم يشهدوا أمر
السجود لآدم، فليس للملائكة العالين عمل مع آدم؛ لأن الأمر بالسجود قد صدر لمن لهم
عمل مع آدم وذريته والذين يقول فيهم الحق سبحانه: ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ
يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله... ﴾ [الرعد: ١١]
وهناك الرقيب، والعتيد والقعيد. وفي كل ظاهرة من
ظواهر الكون هناك ملك مخصوص بها، ويبلغنا الحق بمسألة الخلق، والخطاب لنا
﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا للملائكة اسجدوا
لأَدَمَ﴾ وهذا ترتيب اخباري، وليس ترتيباً للأحداث. أو أن الحق سبحانه وتعالى طمر
الخلق جميعاً في خلق آدم، والعلم الحديث يعطينا أيضاً مؤشرات على ذلك، حين يأتون
ببذرة ويكتشفون فيها كل مقومات الثمرة، وكذلك الحيوان المنوي توجد فيه كل صفات
الإنسان.
ولذلك نجدهم حين يدرسون قانون الوراثة يقولون: إن
حياة كل منا تتسلسل عن آخر، فأنت من ميكروب أبيك، وقد نزل من والدك وهو حي، ولو
أنه نزل ميتاً لما اتصل الوجود. ووالدك جاء من ميكروب جده وهو حي، وعلى ذلك فكل
مكائن الآن فيه
4060
كائن الآن فيه جزئ حي من لدن آدم، لم يطرأ عليه موت
في أي حلقة من الحلقات.
إذن فكلنا كنا مطمورين في جزيئات آدم، وقال ربنا
سبحانه: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بنيءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ
وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ... ﴾ [الأعراف: ١٧٢]
ونقول: صدق الحق فهو الخالق القادر على أن يخرجنا من
ظهر آدم، وهكذا كان الخلق أولاً والتصوير أولاً، وكل ذلك في ترتيب طبيعي، وهو
سبحانه له أمور يبديها ولا يبتديها، أي أنه سبحانه يظهرها فقط، فإذا خاطب آدم
وخاطب ذريته فكأنه يخاطبنا جميعاً. ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ
ثُمَّ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لأَدَمَ فسجدوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِّنَ
الساجدين﴾ [الأعراف: ١١]
وعرفنا من هم الملائكة من قبل، وما هي علة السجود.
﴿فسجدوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِّنَ الساجدين﴾.
والحق سبحانه يستثنيه بأنه لم يكن من الساجدين. وهذا
دليل على أنه دخل في الأمر بالسجود، ولكن هل إبليس من الملائكة؟ لا؛ لأنك إذا جئت
في القرآن ووجدت نصَّا يدل بالالتزام، ونصَّا يدل بالمطابقة والقطع فاحمل نص
الالتزام على النص المحكم الذي يقطع بالحكم. وقد قال الحق في ذلك: ﴿وَإِذْ قُلْنَا
للملائكة اسجدوا لأَدَمََ فسجدوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن فَفَسَقَ عَنْ
أَمْرِ رَبِّهِ... ﴾ [الكهف: ٥٠]
وفي هذا إخراج لإبليس من جنس الملائكية، وتقرير أنه
من الجن، والجن كالإنس مخلوق على الاختيار، يمكنه أن يعصي يمكنه أن يطبع أو أن
يعصي، إذن فقوله الحق: ﴿فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾.
4061
يعني أن هذا الفسوق أمر يجوز منه؛ لكن الملائكة لا
يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وإن تساءل أحد: ولماذا جاء الحديث عن
إبليس ضمن الحديث عن الملائكة؟. نقول: هب أن فرداً مختاراً من الإِنس أو من الجن
التزم بمنهج الله كما يريده الله، فأطاع الله كما يجب ولم يعص.. أليست منزلته مثل
الملك بل أكثر من الملك، لأنه يملك الاختيار. ولذلك كانوا يسمون إبليس طاووس
الملائكة، أي الذي يزهو في محضر الملائكة لأنه ألزم نفسه بمنهج الله، وترك
اختياره، وأخذ مرادات الله فنفذها، فصار لا يعصي الله ما أمره ويفعل ما يؤمر، وصار
يزهو على الملائكة لأنهم مجبورون على الطاعة، لكنه كان صالحاً لأن يطيع، وصالحاً -
أيضاً - لأن يعصي، ومع ذلك التزم، فأخذ منزلة متميزة من بين الملائكة، وبلغ من تميزه
أنه يحضر حضور الملائكة. فلما حضر مع الملائكة جاء البلاغ الأول عن آدم في أثناء
حضوره، وقال ربنا للملائكة: ﴿اسجدوا لأَدَمَ﴾.
وكان أولى به أن يسارع بالامتثال للأمر الطاعة، لكنه
استنكف ذلك. وهب أنه دون الملائكة ومادام قد جاء الأمر للأعلى منه وهم الملائكة،
ألم يكن من الأجدر به وهو الأدنى أن يلتزم بالأمر؟ لكنه لم يفعل. ولأنه من الجن
فقد غلبت عليه طبيعة الاختيار.
ويقول الحق بعد ذلك: ﴿قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ
تَسْجُدَ إِذْ... ﴾
4062
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢ ﰋ
ثم قال كما يحكي القرآن الكريم: ﴿أَأَسْجُدُ لِمَنْ
خَلَقْتَ طِيناً﴾ [الإسراء: ٦١]
4062
وهكذا كان الموقف استكباراً واستلاءً. وقوله الحق:
﴿مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ﴾ [ص: ٧٥]
ونحن حين نحلل هذا النص، نجد قوله: ﴿مَا مَنَعَكَ﴾
أي ما حجزك، وقد أورد القرآن هذه المسألة بأسلوبين، فقال الحق مرة: ﴿مَا مَنَعَكَ
أَلاَّ تَسْجُدَ﴾. وقال مرة أخرى: ﴿مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ﴾. وهذا يعني أن
الأسلوب الأول جاء ب «لا» النافية، والأسلوب الثاني جاء على عدم وجود «لا»
النافية. وقوله ﴿مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ﴾ كلام سليم واضح؛ يعني: ما حجزك عن
السجود. لكن ﴿مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ﴾ هي التي تحتاج لوقفة. لذلك قال
العلماء: إن «لا» هنا زائدة، ومَنْ أَحْسَن الأدب منهم قال: إن «لا» صلة. لكن كلا
القولين لا ينفع ولا يناسب؛ لأن من قال ذلك لم يفطن إلى مادة «منع» ولأي أمر تأتي،
وأنت تقول: «منعت فلاناً أن يفعل»، كأنه كان يهم أن يفعل فمنعته.
إذن ﴿مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ﴾ كأنّه كان عنده
تهيؤ للسجود، فجاءت قوة أقوى منه ومنعته وحجزته وحالت بينه وبين أن يسجد. لكن ذلك
لم يحدث. وتأتي «منع» للامتناع بأن يمتنع هو عن الفعل وذلك بأن يقنعه غيره بترك
السجود فيقتنع ويمتنع، وهناك فرق بين ممنوع، وممتنع؛ فممنوع هي في ﴿مَنَعَكَ أَن
تَسْجُدَ﴾، وممتنع تعني أنه امْتنع من نفسه ولم يمنعه أحد ولكنّه أقنعه. وإن كان
المنع من الامتناع فالأسلوب قد جاء ليؤكد المعنى الفعلي وهو المنع عن السجود. وهذا
هو السبب في وجود التكرار في القرآن. ولذلك قال الحق سبحانه: ﴿قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ
تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ﴾ [الأعراف: ١٢]
وسبحانه قد أمر الملائكة وكان موجوداً معهم إما
بطريق العلو، لأنه فاق الملائكة وأطاع الله وهو مختار فكانت منزلته عالية، وإما
بطريق الدنو؛ لأن الملائكة أرفع من إبليس بأصل الخلقة والجبلة، وعلى أي وضع من
العلو والدنو كان على إبليس أن يسجد، ولكنه قال في الرد على ربّه:
4063
﴿... أَنَاْ خَيْرٌ
مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾ [الأعراف: ١٢]
وسبحانه لم يسأل إبليس عن المقارنة بينه وبين آدم،
ولكن سأله وهو يعلم أزلاً أنّ إبليس قد امتنع باقتناع لا بقهر، ولذلك قال إبليس:
أنا خير منه، فكأن المسألة دارت في ذهنه ليوجد حيثية لعدم السجود. ولا يصح في عرفه
الإبليسي أن يسجد الأعلى للأدنى، فما دام إبليس يعتقد أنه خير من آدم ويظن أنه
أعلى منه، فلا يصح أن يسجد له. وأعلى منه لماذا؟ لأنه قال: ﴿خَلَقْتَنِي مِن
نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾ فكأن النار لها علو، وهو في ذلك مخطئ تماماً لأن
الأجناس حين تختلف؛ فذلك لأن لكل جنس دوره، ولا يوجد جنس أفضل من جنس، النار لها
مهمة، والطين له مهمة، والنار لا تقدر أن تؤدي مهمة الطين، قلا يمكن أن نزرع في
النار.
إذن فالخيرية تتأتى في الأمرين معا مادام كل منهما
يؤدي مهمته، ولذلك لا تقل: إن هذا خير من هذا، إنما قل: عمل هذا أحسن من عمل هذا،
فكل شيء في الوجود حين يوضع في منزلته المرادة منه يكون خيراً، ولذلك أقول: لا تقل
عن عود الحديد إنه عود مستقيم، وتقول عن الخطاف: إن هذا عود أعوج، لأن مهمة الخطاف
تقتضي أن يكون أعوج، وعوجه هو الذي جعله يؤدي مهمته، لأن الخيرية إنما تتأتى في
متساوي المهمة، ولكن لإبليس قال: ﴿أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ... ﴾ [الأعراف: ١٢]
قالها للمعاندة، للكبر، للكفر حين أعرض عن أمر الله
وأراد أن يعدل مراد الله في أمره، وكأنه يخطِّئ الحق في أمره، ويردّ الأمر على
الآمر. فما كان جزاء الحق سبحانه وتعالى لإبليس إلا أن قال له: ﴿قَالَ فاهبط...
﴾
4064
ﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰ ﰌ
والهبوط يستدعي الانتقال من منزلة عالية إلى منزلة
أقل، وهذا ما جعل العلماء يقولون إن الجنة التي وصفها الله بأنها عالية في هي السماء،
ونقول: لا، فالهبوط لا يستدعي أن يكون هبوطاً مكانياً، بل قد يكون هبوط مكانة،
وهناك فرق بين هبوط المكان، وهبوط المكانة، وقد قال الحق لنوح عليه السلام: ﴿قِيلَ
يانوح اهبط بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وعلى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ...
﴾ [هود: ٤٨]
أي اهبط من السفينة، إذن مادة الهبوط لا تفيد النزول
من مكان أعلى إلى مكان أدنى، إنما نقول من مكان أو من مكانة. ﴿قَالَ فاهبط
مِنْهَا﴾.
وهذا تنزيل من المكانة لأنه لم يعد أهلاً لأن يكون
في محضر الملائكة؛ فقد كان في محضر الملائكة؛ لأنه الزم نفسه بالطاعة، وهو مخلوق
على أن يكون مختارا أن يطيع أو أن يعصي، فلما تخلت عنه هذه الصفة لم يعد أهلاً لأن
يكون في هذا المقام، وذلك أن الملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
﴿قَالَ فاهبط مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ... ﴾ [الأعراف: ١٣]
أي ما ينبغي لك أن تتكبر فيها.
إن امتناعك عن أمر من المعبود وقد وجهه لك وأنت
العابد هو لون من الكبرياء على الآمر، والملائكة جماعة لا يعصون الله ما أمرهم
ويفعلون ما يؤمرون، فما دامت أنت أهل استكبار واستعلاء على هذه المكانة فلست أهلاً
لها، فكأن العمل هو الذي أهله أن يكون في العلو، فلما زايله وفارقه كان أهلاً لأن
يكون في الدنو، وهكذا لم يكن الأمر متعلقاً بالذاتية، وفي هذا هبوط لقيمة كلامه في
أنه من نار وآدم من طين؛ لأن المقياس الذي توزن به الأمور هو مقياس أداء العمل،
ومن حكمة الحق
4065
أن الجن يأخذ صورة القدرة على أشياء لا يقدر عليها
الإنس، مثل السرعة، واختراق الحواجز، والتغلب على بعض الأسباب، فقد ينفذ الجن من
الجدار أو من الجسم، وكما قال الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إن
الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم.»
وهو ذلك مثل الميكروب، لأنه هذه طبيعة النار، وهي
المادة التي خُلق منها. وهي تتعدى الحواجز. والجن قد بلغ من اللطف والشفافية أنه
يقدر على أن ينفذ من أي شيء، لكن الحق سبحانه وتعالى أراد أن يوضح للجن لا تعتقد
أن عنصريتك هي التي أعطتك هذا التمييز، وإنما هي إرادة المُعَنْصر، بدليل أنه جعلك
أدنى من مكانة الإنسان، إنه - سبحانه - يجعل إنسياً مثل سيدنا سليمان مخدوما لك
أيها الجنى، إنه يسخرك ويجعلك تخدمه. وأنه في مجلس سليمان، جعل الذي عنده علم من
الكتاب، يأتي بقوة أعلى من قوة «عفريت» من الجن.
فالحق هو القائل: ﴿قَالَ عِفْرِيتٌ مِّن الجن... ﴾
[النمل: ٣٩]
وهذا يدل على أن هناك أذكياء وأغبياء في عالم الجن
أيضاً. وجاء الذي عنده علم من الكتاب فتسامى فوق عفريت الجن في الزمن، فقد قال هذا
العفريت: ﴿أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ... ﴾ [النمل: ٣٩]
والمقام هو الفترة الزمنية التي قد يقعدها سليمان في
مجلسه، فماذا قال الذي عنده علم من الكتاب - وهو إنسان -؟ ﴿قَالَ الذي عِندَهُ
عِلْمٌ مِّنَ الكتاب أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ
طَرْفُكَ... ﴾ [النمل: ٤٠]
4066
كأنه سيأتي بعرش بلقيس قبل أن ينته سليمان من ردّ
طرفه الذي أرسله ليبصر به شيئاً، إن سليمان رأى العرش بين يديه، ولذلك نجد عبارة
القرآن معبرة: ﴿فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ... ﴾ [النمل: ٤٠]
كأن المسألة لا تتحمل. بل تم تنفيذها فوراً. إذن
فالحق يوضح للمخلوقين من العناصر: إياكم أن تفهموا أن تميزكم بعناصركم، إنني أقدر
بطلاقة قدرتي أن اجعل الأدنى يتحكم في الأعلى؛ لأنها إرادة من عَنْصَرَ العناصر.
﴿قَالَ فاهبط مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فاخرج إِنَّكَ
مِنَ الصاغرين﴾ [الأعراف: ١٣]
وكلمة ﴿فاهبط﴾ تشير على أن الهبوط أمر معنوي، أي أنك
لست أهلاً لهذه المنزلة ولا لتلك المكانة. هذا ما تدل عليه كلمة ﴿فاهبط﴾، ثم جاء
الأمر بعد ذلك بالخروج من المكان.
والصَّغَار هو الذل والهوان؛ لأنه قََابَل الأمر
باستكبار، فلابد أن يجازى بالصَّغار. وبذلك يكون قد عومل بضد مقصده، والمعاملة بضد
المقصد لون من التأديب والتهذيب والتعليم؛ مثلما يقرر الشرع أن الذي يقتل قتيلاً يحرم
من ميراثه، لأنه قد قتله ليجعل الإرث منه، ولذلك شاء الله أن يحرمه من الميراث؛
فبارتكابه القتل صار محجوباً عن الميراث.
ويقول الحق بعد ذلك: ﴿قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى...
﴾
4067
ﭲﭳﭴﭵﭶ ﰍ
ومعنى ﴿أَنظِرْنِي﴾ أمهلني أي لا تمتني بسرعة، ولا
تجعل أجلي قريباً، بدليل قوله سبحانه:
4067
﴿قَالَ إِنَّكَ مِنَ... ﴾
4068
ﭸﭹﭺﭻ ﰎ
فالإِنظار طلب الإِمهال، وعدم التعجيل بالموت، وقد
طلبه إبليس لكي يشفي غليله من بني آدم وآدم؛ انه جاء له بالصَّغَار والذلة والطرد
والهبوط، ولذلك أصر على أن يجتهد في أن يغري أولاد آدم ليكونوا عاصين أيضاً. وكأن
إبليس في هذا الطلب أراد أن يُنْقذ من الموت وأن يبقى حيًّا إلى يوم البعث الذي
يبعث فيه كل من مات. وكأنه يريد أن يقفز على قول الحق: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ
الموت... ﴾ [آل عمران: ١٨٥]
فأوضح الحق: أن تأجيل موتك هو إلى يوم الوقت المعلوم
لنا وغير المعلوم لك؛ لأن الأجل لو عرف فقد يعصي من يعلمه مدة طويلة ثم يقوم
بالعمل الصالح قبل ميعاد الأجل، ولكن الله أراد بإبهام زمان الموت أن يشيع زمانه
في كل وقت. وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه: ﴿إلى يَوْمِ الوقت المعلوم﴾ [الحجر: ٣٨]
والوقت المعلوم هو النفخة الأولى: ﴿وَنُفِخَ فِي
الصور فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن شَآءَ الله ثُمَّ
نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ﴾ [الزمر: ٦٨]
وكأن إبليس كان يريد أن يفر من الموت ليصل إلى
النفخة الثانية، لكن ربنا أوضح أنه باق إلى وقت معلوم، وآخر الوقت المعلوم هذا
لابد أن يكون قبل النفخة الأولى.
ويقول الحق بعد ذلك:
ﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃ ﰏ
﴿قَالَ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي... ﴾ والإغواء. إغراء
بالمعصية، ومن الإغواء الَغّي وهو: الإهلاك، ويقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿...
فَسَوْفَ يَلْقَونَ غَيّاً﴾ [مريم: ٥٩]
وحين نقرأ ﴿فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي﴾ أي فبإغوائك يا
الله لي سأفعل كذا وكذا، وبذلك يكون قد نسب الإغواء لله لكن هل يغوي ربنا أو
يهدي؟. إن الله يهدي دلالة وتمكيناً، وسبق أن تكلمنا كثيراً عن هداية الدلالة
ودلالة التمكين، وسبحانه خلق الشيطان مختاراً، ولم يخلقه مرغماً ومسخراً كالملائكة،
ولأنه قد خلق مختاراً فقد أعطاه فرصة أن يطيع وأن يعصي، وكأن الشيطان بقوله هذا
يتمنى لو أنه قد خلق مقهوراً. ويقول إن الله هو الذي أعطاه سبب العصيان. ولم يلتفت
إلى أن الاختيار إنما هو فرصة لا للغواية فقط، ولكنه فرصة للهداية أيضاً. وأنت
أيها الشيطان الذي اخترت الغواية.
إذن فقول الشيطان: ﴿فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي﴾ إنما
يريد به الشيطان: أن يدخل بمعصيته على الله، ونقول له: لا، إن ربنا لم يغو؛ لأن
الحق سبحانه وتعالى لا يغوي وإنما يهدي؛ لأن الله لو خلقه مرغماً مقهوراً ما أعطاه
فرصة أن يختار كذا أو يختار كذا؛ فقد خلقه على هيئة «افعل» و «لا تفعل»، واختار هو
ألاّ يفعل إلا المعصية. ﴿قَالَ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ
صِرَاطَكَ المستقيم﴾ [الأعراف: ١٦]
والمفهوم من العبارة أنهم بنو آدم، والقعود لون من
ألوان حركة الجسم الفاعل؛ لأن المتحرك إما أن يكون قائماً، وإما أن يكون قاعداً،
وإما أن يكون
4069
مضجعاً نائماً. وأريح الحالات أن يكون نائماً
مضجعاً؛ لأن الجسم في هذه الحالة يكون مستريحاً بفعل الجاذبية الأرضية، وحين يكون
الإنسان قاعداً تقاومه الجاذبية قليلاً، وحين يكون واقفاً فهو يحمل جسمه على
قدميه، ولذلك نقول لمن وقف طويلاً على قدميه: «اقعد حتى ترتاح» ولو قعد وكان
متعباً فيقال له: «مضجع قليلاً لترتاح».
ولماذا اختار الشيطان أن يقول: ﴿لأَقْعُدَنَّ﴾ ؟ حتى
يكون مطمئناً، فقد يتعب من الوقفة، أيضاً وهو في حالة القعود يكون منتبها متيقظاً،
والحق يقول: ﴿واقعدوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ... ﴾ [التوبة: ٥]
ولم يقل: «قفوا» حتى لا يرهق الناس أنفسهم بالوقوف
الطويل، ولكن ساعة يواجهون الأمر فعليهم بالنهوض. والقعود أقرب إلى الوقوف، لأن
الاضجع أقرب إلى التراخي والنوم، وقد اختار الشيطان الموقف الذي يحفظ له قوته،
ويبقى له انتباهه: ﴿لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم﴾.
ومادام الشيطان سيغوي، وسيضل الغير، فسيختار للغواية
من يكون في طريق الهداية. إنما من غوى باختياره وضل بطبيعته فالشيطان قد استراح من
ناحيته ولا يريده، وتلك ظاهرة تحدث للناس حينما يجدون ويجتهدون في الطاعة؛ فالشاب
الطائع الملتزم يحاول الشيطان أن يخايله ليصرفه عن الصلاة والطاعة؛ لأن الشيطان
يتلصص على دين الإنسان، فهو كاللص، واللص لا يحوم حول بيت خرب.
إنما يحوم اللص حول بيت عامر بالخير.
إننا نلاحظ هذه المسألة في كل الناس حينما يأتون
للصلاة فيقول الواحد منهم: حينما أصلي يأتي له الوسواس، ويشككني في الصلاة، نقول
له: نعم هذا صحيح، وحين يأتي لك هذا الوسواس فاعتبره ظاهرة صحية في الإيمان؛ لأن
معناه أن الشيطان عارف أن عملك مقبول، ولذلك يحاول أن يفسد عليك الطاعة؛ لأنك لو
كنت فاسداً من البداية، ووقفت للصلاة دون وضوء لما جاءك الوسواس. لكن الشيطان يريد
أن يفسد عليك الطاعة ولذلك يقول الله:
4070
﴿وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ
بالله... ﴾ [الأعراف: ٢٠٠]
لماذا؟. لأن الله خلقك وخلقه، وإن كنت لا تستطيع
دفعه لأنه يجري منك مجري الدم في العروق وينفذ إليك بالخواطر والمواجيد التي لا
تضبطها؛ ويأتي إليك بمهام الأشياء في وقت الصلاة؛ فتتذكر الأشياء التي لم تكن
تتذكرها، ويأتي لك بأعقد المسائل وأنت تصلي؛ وكل ذلك لأنه قال: ﴿لأَقْعُدَنَّ
لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم﴾، ولم يقل إنه سيقعد على الطريق المنحرف، ولن يجلس
الشيطان في مجلس خمر، لكنه يقعد على أبواب المساجد أو في المساجد ليفسد للناس
أعمالهم الصالحة. فماذا نفعل في هذه الحال؟. يدلنا الحق سبحانه أن نستعيذ:
﴿وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله﴾
فمعنى ﴿فاستعذ﴾ أي فالتجئ منه إلى الله؛ لإن الله
الذي أعطاه الخاصية في أن يتغلغل فيك، وفي دمك، وفي خواطرك، هو القادرعلى منعه،
وحين تقول: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» بفزع والتجاء إليه - سبحانه - فإنه -
جل شأنه - ينقذك منه. وإن كنت تقرأ القرآن ثم جاء لك الخاطر من الشيطان فقل: «أعوذ
بالله من الشيطان الرجيم» فإذا قلت هذا فكأنك نبهته إلى أنك أدركت من أين جاءت هذه
النزغة: مرة واثنتين وثلاثاً، فيقول الشيطان لنفسه: إن هذا المؤمن حاذق فطن وحذر
لا أستطيع غوايته، ولأبحث عن غيره.
ولذلك رأينا الإمام أبا حنيفة، وقد شهرَ عنه الفتيا،
وذهب إليه سائل يقول: ضاع مني مال في أرض كنت قد دفنته فيها، ولا أعرف الآن مكانه.
دلني عليه أيها الشيخ؟. وبطبيعة الحال كان هذا السؤال في غير العلم، فقال أبو
حنيفة: يا بني ليس في ذلك شيء من العلم، ولكني احتال لك؛ إذا جاء الليل فقم بين
يدي ربك مصليا هذه الليلة، لعل الله سبحانه وتعالى يبعث لك جنداً من جنوده يقول لك
عن مكان مالك.
وبينما أبو حنيفة يؤدي صلاة الفجر، وإذا بالرجل يقبل
ضاحكاً مبتسماً قائلا: يا إمام لقد وجدت المال، فضحك أبو حنيفة، وقال: والله لقد
علمت أن
4071
الشيطان لا يدعك تتم ليلتك مع ربك، وسيأتي ليُخبرك،
فهلاّ أتممتها شكراً لله، هيا قم إلى الصلاة.
إذن فقد عرف الشيطان كيف يقعد: وكيف يقسم، لأنه في
آية أخرى يقول: ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [ص: ٨٢]
لقد استطاع أن يأتي بالقسم الذي يعينه على مهمته؛
فقال: ﴿فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ﴾ أي بامتناعك عن خلقك وعدم حاجتك إليهم
فأنت الغالب الذي لا يقهر؛ لأنك إن أردتهم ما استطعتُ أن آخذهم، لكنك شئت لكل
إنسان أن يختار: ﴿فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف: ٢٩]
فأقسم، ومن هذا الباب يدخل الشيطان على الإِنسان:
﴿فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾.
واستدرك على نفسه أيضاً وقال: ﴿إِلاَّ عِبَادَكَ
مِنْهُمُ المخلصين﴾ [ص: ٨٣]
لأن الذي يريده الله مهديًّا لا يستطيع الشيطان أن
يغويه؛ لأنه لا يناهض ربنا ولا يقاومه، إنما يناهض خلق الله، ولا يدخل مع ربنا في
معركة، إنما يدخل مع خلقه في معركة ليس له فيه حجة ولا قوة؛ لأن الذي يغلب في
المعارك إما أن يرغمك على الفعل، وإما أن يقنعك لتفعل أنت بدون إرغام. وهل يملك
إبليس واحدة من هذه؟. لا، ولذلك سيأتي في الآخرة يقول: ﴿وَمَا كَانَ لِيَ
عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي... ﴾ [إبراهيم:
٢٢]
4072
والسلطان قسمان: سلطان يقهر، وسلطان يقنع. والشيطان
يدخل على الإِنسان من هذه الأبواب.
ويقول الحق بعد ذلك على لسان إبليس: ﴿ثُمَّ
لآتِيَنَّهُمْ مِّن... ﴾
4073
ﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔ ﰐ
فالذي بين اليد هو ما كان إلى الإمام، ﴿وَمِنْ
خَلْفِهِمْ﴾ أي من الوراء، ﴿وعَنْ أَيْمَانِهِمْ﴾ أي من جهة اليمين، ﴿وعَن شَمَآئِلِهِمْ﴾
أي من جهة اليسار. والشيء الذي أمام العالم كله، ونسير إليه جميعاً هو ﴿الدار
الآخرة﴾ وحين يأتي الشيطان من الأمام فهو يشككهم في حكاية الآخرة ويشككهم في
البعث. ويحاول أن يجعل الإِنسان غير مقبل على منهج الله، فيصير من الذين لا يؤمنون
بلقاء الله، ويشكّون في وجود دار أخرى سيُجَازى فيها المحسن بإحسانه والمسيء
بإساءته. وقد حدث ذلك ووجدنا من يقول القرآن بلسان حاله: ﴿أَإِذَا مِتْنَا
وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَ آبَآؤُنَا الأولون﴾
[الصافات: ١٦ - ١٧]
ولذلك يعرض الحق قضية البعث عرضاً لا يجعل للشيطان
منفذاً فيها، فيوضح لنا أنه سبحانه لم يعجز عن خلقنا أولاً؛ لذلك لن يعجز عن
إعادتنا، والإِعادة بالتأكيد أهون من البداية؛ لأنّه سيعيدهم من موجود، لكن
البداية كانت من عدم، إنه - سبحانه - عندما يبيّن للناس أن الإِعادة أهون من
البداية فهو يخاطبهم بما لا يجدون سبيلاً إلى إنكاره، وإلاّ فالله - جل شأنه -
تستوي لدى طلاقة قدرته كل الأعمال فليس لديه شيء سهل وهيّن وآخر صعب وشاق ويبلغنا
- سبحانه - بتمام إحاطة علمه فيقول: ﴿قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرض مِنْهُمْ
وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ﴾ [ق: ٤]
4073
أي أن لكل واحدٍ كتاباً مكتوباً فيه كل عناصره
وأجزائه.
والشيطان - أيضاً - يأتي من الخلف، وخلف كل واحد منا
ذريته، يخاف ضيعتهم، فيوسوس الشيطان للبعض بالسرقة أو النهب أو الرشوة من أجل بقاء
مستقبل الأبناء، وفساد أناس كثيرين يأتي من هذه الناحية، ومثل هذا الفساد يأتي حين
يبلغ بعض الناس منصبًّا كبيراً، وقد كبرت سنّه، ويقبل على الله بشرّ، ويظن أنه
يترك عياله بخير. لكن إن كنت تخاف عليهم حقًّا فأمِّن عليهم في يد ربهم، ولا
تؤمِّن حياتهم في جهة ثانية. ﴿وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ
ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ الله وَلْيَقُولُواْ
قَوْلاً سَدِيداً﴾ [النساء: ٩]
ولماذا لم يأت الشيطان للإِنسان من فوق ومن تحت لأن
الفوقية هي الجهة التي يلجأ إليها مستغيثا ومستجيرا بربه، والتحتية هي جهة
العبودية الخاصة. فالعبد أقرب ما يكون من ربه وهو ساجد، فهو في هاتين الحالتين
محفوظ من تسلط الشيطان عليه؛ لأن الله تعالى يقول: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ
عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ﴾.
ويقول تعالى: ﴿ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ
أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ
تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾ [الأعراف: ١٧]
ويأتي الشيطان من اليمين ليزهد الناس ويصرفهم عن عمل
الحسن والطاعة. واليمين رمز العمل الحسن؛ لأن كاتب الحسنات على اليمين، وكاتب
السيئات على الشمال، ويأتي عن شمائلهم ليغريهم بشهوات المعصية. ونلحظ أن الحق
استخدم لفظ ﴿عَنْ أَيْمَانِهِمْ﴾ و ﴿عَن شَمَآئِلِهِمْ﴾ ولم يأت ب «على» لأن «على»
فيها استعلاء، والشيطان ليس له استعلاء أبداً؛ لأنه لا يملك قوة القهر فيمنع، ولا
قوة الحجة فيقنع. ولأن أكثر الناس لا تتذكر شكر المنعم عليهم، فيجيد الشيطان
غوايتهم. ولذلك يقول الحق تذييلاً للآية:
4074
﴿... وَلاَ تَجِدُ
أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾ [الأعراف: ١٧]
ويقول الحق بعد ذلك: ﴿قَالَ اخرج مِنْهَا...
﴾
4075
ﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢ ﰑ
لقد بلغ الغرور بالشيطان أن تخيّل أنه ذكي، فشرح لنا
خطته ومنهجه فدلل لنا على أن حكم الله فيه قد نفذ بأن جعل كيده ضعيفاً، فسبحانه
القائل: ﴿... إِنَّ كَيْدَ الشيطان كَانَ ضَعِيفاً﴾ [النساء: ٧٦]
لقد نبهنا الحق لكيد الشيطان وغروره، والناصح هو من
يحتاط، ويأخذ المناعة ضد النزغ الشيطاني. وهنا يقول الحق: ﴿قَالَ اخرج مِنْهَا
مَذْءُوماً مَّدْحُوراً... ﴾ [الأعراف: ١٨]
وقال له الحق من قبل: ﴿قَالَ فاهبط مِنْهَا فَمَا
يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فاخرج إِنَّكَ مِنَ الصاغرين﴾ [الأعراف: ١٣]
إذن فهناك هبوط وخروج بصَغار ومجاوزة المكان، ثم هنا
أيضاً تأكيد بأنه في حالة الخروج سيكون مصاحباً للذم والصغار والطرد واللعن. ويقول
الحق سبحانه:
4075
﴿... لَّمَن
تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [الأعراف: ١٨]
وفي هذا اخبار لمن يتبعون الشيطان بأنهم أهل لجهنم،
ولم يعدَّها سبحانه لتسع الكافرين فقط، لكنه أعدّها على أساس أن كل الخلق قد
يكفرون به سبحانه، كما أعدّ الجنة على أساس أن الخلق جميعاً يؤمنون به؛ فليس عنده
ضيق مكان، وإن آمن الخلق جميعاً؛ فإنه - جل شأنه - قد أعد الجنة لاستقبالهم
جميعاً، وإن كفروا جميعاً فقد أعدّ النار لهم جميعاً؛ تأكيداً لقوله الحق: ﴿أولئك
هُمُ الوارثون الذين يَرِثُونَ الفردوس هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [المؤمنون: ١٠ -
١١]
وقوله الحق: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ
الله حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ﴾ [الأنبياء: ٩٨]
وبهذا نكون قد شرحنا مسألة إبليس الذي امتنع عن طاعة
أمر الآمر الأعلى بالسجود لآدم.
ويقول الحق بعد ذلك: ﴿وَيَآءَادَمُ اسكن...
﴾
4076
ﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔ ﰒ
ويعاود القرآن الحديث عن آدم بعد تناول مسألة إبليس
فيقول: ﴿وَيَآءَادَمُ اسكن أَنتَ وَزَوْجُكَ الجنة﴾.
4076
كثير من العلماء تواتر نقل العلم عندهم إلى أن الجنة
هي جنة الآخرة والخلود، واعترض البعض متسائلين: كيف يدخل إبليس جنة الخلود؟. وكيف
يخرج منها؟. وهل الذي يدخل الجنة يخرج منها؟. وهؤلاء العلماء الذي قالوا: إن الجنة
هي جنة الآخرة، لم يفطنوا إلى مدلول كلمة «جنة» ؛ فساعة تطلق كلمة جنة، تأخذ ما
يسمى في اللغة «غلبة الاستعمال»، أي تأخذ اللفظ من معانيه المتعددة إلى معنى واحد
يستقل به عرفاً، بحيث إذا سُمع انصرف الذهن إليه، فأنت إذا سمعت يا مؤمن كلمة
الجنة ينصرف ذهنك إلى جنة الآخرة؛ لأنها هي التي تُعتبر جنة بحق، لكن حينما يأتي
اللفظ في القرآن والمتكلم هو الله، فلابد أولاً أن ندرس اللفظ واستعمالاته في
اللغة؛ لأن القرآن جاء بلسان عربي مبين، فمن الجائز أن يوجد اللفظ في اللغة وله
معانٍ متعددة. وعندما يتعلق الأمر بالدين والفقه فإننا نأخذ اللفظ من معناه
اللغوي، ونجعله ينصرف إلى المعنى الشرعي الاصطلاحي.
مثال ذلك كلمة «الحج» فأنت ساعة تسمع كلمة «الحج»
تقول: هو قصد بيت الله الحرام للنسك والعبادة في أشهر معلومة، على الرغم من أن
«الحج» في اللغة هو القصد، فإذا قصدت أي شيء تقول: حججت إليه. فلما جاء الإِسلام
أخذ هذا اللفظ من اللغة واستعمله في الحج بالمعنى الشرعي، وهو قصد البيت الحرام
للنسك، وكذلك كلمة «الصلاة» إنها في اللغة الدعاء، فقوله تعالى: ﴿وصلِّ عليهم﴾ أي ادع
لهم، ولما جاء الإِسلام أخذ الكلمة من اللغة، وجعلها تطلق على معنى اصطلاحي جديد
بحيث إذا أطلق انصرفت إليه، وهي الأقوال والأفعال المخصوصة، المبدوءة بالتكبير
المختومة بالتسليم بشرائطها الخاصة.
ولكن هل معنى أننا أخذنا اللفظ من اللغة وجعل له
الشرع معنىً اصطلاحيًّا أن هذا يكون تركاً لمعناه الأصلي؟. لا؛ لأنك إن أردت أن
تستعمله في معناه الأصلي فلك ذلك، ولكنك تحتاج إلى قرينة تدل على أنك لا تريد
الصلاة الشرعية لأن كلمة «صلاة» أصبحت هي الصلوات الخمس المعروفة لنا، مع أن
معناها الأصلي كان الدعاء، وهذا هو ما جعل العلماء يذهبون إلى أن كلمة «الجنة»
ساعة تُطلق ينصرف الذهن إلى جنة الخلود. ونقول: المعنى اللغوي للجنة أنها المكان
الذي فيه أشجار غزيرة ومتنوعة، أما غزارتها وعلوها فتستر
4077
الإِنسان وتُجِنّه عن كل ما حوله، وأما ما فيها من
الثمار والضروريات والكماليات فلأنها تستر الإِنسان عن خارجها ويكتفي بأن يكون
فيها، والقرآن لم يجيء بالجنة بمعنى جنة الخلد فقط، بل يقول أيضاً:
﴿أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ
مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ﴾ [البقرة: ٢٦٦]
وكذلك يقول سبحانه: ﴿واضرب لهُمْ مَّثَلاً
رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا
بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً﴾ [الكهف: ٣٢]
وقوله الحق: ﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي
مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُواْ مِن رِّزْقِ
رَبِّكُمْ واشكروا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ﴾ [سبأ: ١٥]
وأقول: إن علينا أن نبحث في آفاق مرادات الله حين
يُعْلمنا من لدنه ويقفنا على المعنى المراد، إننا نعلم أن أول بلاغ نزل من الله
بخصوص آدم أخبرنا فيه أنه قد خلق آدم خليفة في الأرض: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض
خَلِيفَةً... ﴾ [البقرة: ٣٠]
إذن فآدم مخلوق للأرض، ولا تظلموا آدم وتقولوا إنه
مخلوق للجنة، وكنا سنعيش فيها لكنه عصى وأنزلنا إلى الأرض. لذلك نقول: لا، وعلينا
أن نتذكر أن أول بلاغ من الله عن آدم أنه جعله في الأرض خليفة. والذي كان يجب أن
نسأل
4078
عنه: ما دام قد جعله الله خلفية في الأرض فما الذي
جاء بحكاية الجنة هذه؟!
لقد خلق الله آدم ليكون خليفة في الأرض، وكان عليه
أن يتلقى من الله التكاليف محصورة في «افعل» و «لا تفعل» ؛ لأنك إن لم تمتثل سيظهر
الفساد في المجتمع، أما الذي لا يظهر منه فساد فسبحانه يتركه مباحاً؛ لذلك فكل ما
لم يرد فيه «افعل» و «لا تفعل» لا يفسد به المجتمع. إذن ف «افعل» و «لا تفعل» هي
مقياس ضمان الصلاح في الأرض.
وهل خلق الله الإِنسان هكذا بدون منغصات تفسد عليه
منهج الله؟. لا، فمادام الشيطان قد وقف هذا الموقف مع آدم، وقال أنا سأغوي؛ فسيزين
لك في «افعل»، و «لا تفعل» ويأتيك الأمر بالصلاة فينزغك الشيطان حتى لا تصلي.
ويأتيك الأمر ألا تشرب الخمر فيزين لك الشيطان أن تشربها، ويحاول أن ينقل مجال
«افعل» إلى مجال «لا تفعل»، وكذلك يحاول أن يزين لك «أن تفعل» ما هو في مجال «لا
تفعل» فترتبك حركتك.
إن الحق سبحانه يريد منهجاً يحكم حركة الحياة، ويضمن
للخلافة في الأرض أن تؤدي مهمتها أداءً يسعد الإِنسان فيها في الدنيا وينعم في
الآخرة؛ لذلك كان لابد أن يدرب الحق سبحانه خليفته في الأرض على المنهج؛ حتى لا
يتلقى المنهج تلقيًّا نظريًّا، لذلك شاء الحق سبحانه وتعالى ألاّ يجعل آدم يباشر
مهمة الخلافة إلا بعد أن يعطيه تدريباً على المهمة في «افعل» و «لا تفعل». وحذره
من العقبات التي تعترض «افعل» ؛ حتى لا تجيء في منطقة «لا تفعل»، وكذلك من العقبات
في منطقة «لا تفعل» حتى لا تجيء في منطقة «افعل»، واختار له مكاناً فيه كل مقومات
الحياة وترفها حتى لا يتعب في أي شيء أبداً في أثناء التدريب، وأوضح له أن هذه هي
الجنة وهي بستان جميل وفيه كل مقومات الحياة وترفها، وأمره: كُلْ من كل شيء فيها،
ولكن لا تقرب هذه الشجرة.
«كل» هذا هو الأمر، و «لا تقرب» هذا
هو النهي. وأوضح سبحانه لآدم أن الذي سيعكر عليه تطبيق منهج الله هو العدو الذي
ثبتت عداوته إنّه «إبليس» ؛ لأنه حين امتنع عن السجود لآدم تلقى الطرد واللعنة
فأقسم وقال:
4079
﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾
[ص: ٨٢]
كأن الحق سبحانه وتعالى جعل الجنة كمكان فيه كل
مقومات الحياة لآدم بصنع الله - سبحانه - وإعداده، وأعطى له منها القدر الذي يعطي
المقوم فلا فضلات تتعبه، ولا ينفخ ولا يعاني من متاعب في الصحة... إلخ؛ لأنه
سبحانه يعطي لآدم القدر المقوم. وسبحانه قادر على كل شيء بدليل أنه يرعى الجنين في
بطن أمه، والجنين ينمو، والنمو معناه أنه يتلقى الغذاء، ولا يخرج منه فضلات؛ لأن
الغذاء الذي يدخله الله له على قدر النمو فقط، وحين يكون ربنا هو الذي يمد جنة
التدريب بالغذاء، فهو قادر على كامل الإِعداد.
إذن فالجنة التي وُجد فيها آدم بداية ليست هي جنة
الجزاء؛ لأن جنة الجزاء لابد أن تأتي بعد التكليف. ولا يمكن أن يكون فيها تكليف،
ومن يسكنها لا يخرج منها. وآدم - كما علمنا - مخلوق للأرض، إذن وجود الجنة هنا
يعني أنها مكان التدريب على المهمة في الخلافة أمراً متمثلاً في ﴿فَكُلاَ﴾، ونهياً
متمثلاً في ﴿وَلاَ تَقْرَبَا﴾، لم يقل لهما: لا تأكلا، بل قال: ﴿وَلاَ تَقْرَبَا﴾
لأن القِربان مظنة أنه يؤدي إلى الغواية ويدفع إليها. وهو قد أكل منها لأنه جاء
ناحيتها واقترب منها، ولو كان قد استمع ولم يقرب لما أكل منها.
فكأن الله جعل لآدم في جنة التدريب والتمرين رمزين:
الرمز الأول: ل «افعل»، والرمز الثاني: ل «لا تفعل»، ونجد أن الذي نهى الله عنه
قليل بالنسبة لما أباحه وأمر به. وهذا من رحمة الله بالعباد، فيفعل المؤمن ما يؤمر
به، ولا يحوم حول ما حرمه الله؛ لأنه لا يأمن حين يرى ما حرم الله أن تميل نفسه
إليه، ولذلك قال: ﴿وَلاَ تَقْرَبَا﴾ فلو أنهما لم يقربا ما كانت الشجرة تغريهما
بأي منظر. ولذلك في كثير من الأشياء التي يحرمها الحق سبحانه وتعالى وفي قمتها ما
يصون ويحفظ العقيدة الأساسية، يقول بعدم الاقتراب أو الاجتناب، فسبحانه هو القائل:
﴿... فاجتنبوا الرجس
مِنَ الأوثان واجتنبوا قَوْلَ الزور﴾ [الحج: ٣٠]
4080
ولم يقل: «لا تعبدوا الأوثان»، بل قال: «فاجتنبوا»،
والشأن في «الخمر» أيضاً جاء بالاجتناب. لكنّ بعضاً من السطحيين يقولون: لم يرد في
الخمر تحريم بل قال بالاجتناب، ونقول: الاجتناب أقوى من المنع ومن التحريم، لأن
غاية التحريم أن يمنعك من شرب الخمر. لكن الاجتناب يقتضي ألا تذهب ناحيتها، ولا
تقعد في المكان الذي توجد فيه، ولا تعصرها ولا تحملها. ﴿... وَلاَ تَقْرَبَا هذه
الشجرة فَتَكُونَا مِنَ الظالمين﴾ [الأعراف: ١٩]
والظلم هو تجاوز الحد أو إعطاء الشخص غير حقه، ويوضح
سبحانه: أنا لم أجعل لكما حقا في أن تقربا ناحية هذه الشجرة، فإن قربها أي منكما،
فهو قد خالف ما شرعته لكما، ﴿فَتَكُونَا مِنَ الظالمين﴾ اي لا تدخلا في اطار من
يظلمون أنفسهم لأن الله لا يظلم أحداً، وأنت تظلم نفسك لأنك تعطي نفسك شهوة قليلة
في زمن يسير، وبعد ذلك تأخذ عقابها عذاباً أليماً في زمن طويل وبشكل أشد. وهذا ظلم
لنفسك، كما أنه دليل على أنك غير مأمون عليها.
ويقول الحق بعد ذلك: ﴿فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشيطان...
﴾
4081
ﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮ ﰓ
كلمة «وسوس» تدل على الهمس في الإغواء، ونعرف أن
الذي يتكلم في خير لا يهمه أن يسمعه الناس. لكن من يتكلم في شرّ فيهمس خوفاً من أن
يفضحه أحد، وكأن كل شر لابد أن يأتي همساً، وصاحبه يعرف أن هذا الكلام لا يصح أن
يحدث، ويستحي منه، ولا يحب أن يعرف المجتمع عنه هذا الشيء،
4081
و «وسوس» مأخوذة من الصوت المغري، لأن الوسوسة هي
صوت رنين الذهب والحلي، إذن فما قاله الشيطان لآدم وزوجه هو كلام مغرٍ ليلفتهما عن
أوامر رب حكيم.
وقوله الحق: ﴿فَوَسْوَسَ لَهُمَا﴾ يعطينا حيثيات
البراءة لحواء؛ لأن الشائع أن حواء هي التي ألحت على آدم ليأكلا من الشجرة، وكثير
منا يظلم حواء على الرغم من أن القرآن يؤكد أن الوسوسة كانت لآدم وحواء معاً.
﴿فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشيطان لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا﴾.
[الأعراف: ٢٠]
وهل وسوس الشيطان لهما ليبدي لهما ما ووري من
سوءاتهما، أو وسوس ليعصيا الله؟. لقد وسوس ليعصيا الله، وكان يعلم أن هناك عقوبة
على المعصية، ويعلم أنهما حين يأكلان من الشيء الذي حرمه ربنا ستظهر سواءتهما، و
«السوءة» هي ما يسوء النظر إليه، ونطلقها على العورة، والفطرة تستنكف أن يرى
الإِنسان المكتمل الإِنسانية السوءة. وكأنهما في البداية لم ير أحدهما سوءة الآخر
أو سوءة نفسه لأن الحق يقول: ﴿لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن
سَوْءَاتِهِمَا﴾.
والسوءات أربع: اثنتان للرجل واثنتان للمرأة، فكأن
كل إنسان منهما لا يرى سوءتيه، وكذلك لا يرى سوءتي الآخر، لأن السوءات كلها لها ما
يخفيها عن الرؤية، وهذا كلام معقول جداً. ألم تقل سيدتنا أم المؤمنين عائشة -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْها -: «ما رأيت ولا أرى مني»، وفي هذا القول تتجلّى قمة الأدب
لأنها لم تجيء حتى باللفظ، لأن العضو مادام سوءة فهو مبني على الستر. وذلك حين
حدَّث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: «» يا أيها الناس إنكم
تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا
فاعلين «، تعجبت السيدة عائشة فقال لها:» الأمر أخطر من أن ينظر أحد إلى أحد.
«
4082
﴿لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن
سَوْءَاتِهِمَا﴾ [الأعراف: ٢٠]
وبماذا ووري؟. لا بد أن هناك لباساً كان على كل
منهما، وقال العلماء الكثير عن هذا اللباس، فمن قائل: إن أظافر الإِنسان هي بقية
اللباس الذي كان موجوداً عند آدم وحواء، وهو ما كان يواري السوءات، ويقال: إنّ أيّ
إنسان يكون في غاية الضحك والانبساط، ويريد أن يكتم نَفْسه، ويمنعها ويحول بينها
وبين الضحك إنه يحدث له ذلك لو نظر إلى أظافره، عندئذ لا يمكنه أن يضحك لأنها بقية
لحظة الندم على كشف السوءة.
وجرّبها في نفسك، تجد نفسك قد منعت من الضحك، وهذا
من عمل الإِله.
أو أن الستار الذي كان يواري السوءة هو النور
الإِلهي الذي كان يلفهما، والنور الساطع جداً حين يلف لا يبين، صحيح أنك بالنور
ترى الأشياء، لكنه إن اشتد عمَّى على الأشياء فأخفاها فلا تراها؛ لأن أي أمر إذا
زاد على حدّه انقلب إلى ضده، فإما أن يكون الثوب الأظافر، وإما أن يكون النور
الإِلهي الذي كان يغشاهما ويواري السوءة، وقد سميت «سوءة» و «عورة»، لأنها تسوء،
فلماذا تسوء؟ وما الفرق بين فتحتين: فتحة في الفم، وفتحة في العورة؟.
إن فتحة العورة سوءة باعتبار ما يخرج منها. وحينما
كانا يأكلان من إعداد ربنا لم يكونا - كما قلنا - في حاجة إلى إخراج فضلات؛ لأن
إعداد الله يعطي كُلاًّ منهما على القدر الكافي للحركة والفعل، وكانت المسألة مجرد
فتحات مثل بعضها. لكن حينما يخرجان عن مرادات الله في الطعام، ويأكلان غير ما أمر
الله به، ويمارسان اختيار الطعام بدأت الفضلات في الخروج بما لها من رائحة غير
مقبولة، فهل ظهور السوءة لهما هو رمز إلى أن هناك مخالفة لمنهج الله سواء أكان ذلك
في القيم والمعنويات أم في الأمور المادية؟
نعم؛ لأن كل شيء يُخَالَف فيه منهج الله لابد أن
تبدو فيه العورة، وإن رأيت أي عورة في المجتمع فاعلم أن منهجاً من مناهج الله قد
عطل. وينقل القرآن ما قاله لهما الشيطان من وسوسة:
4083
﴿وقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هذه الشجرة
إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الخالدين﴾ [الأعراف: ٢٠]
لقد همس الشيطان وأوحى لهما بأن الحق: أراد ألا
تقربا هذه الشجرة لأن من يأكل منها يصير مَلَكاً، أو خالداً. ولم يمحص أي منهما
كلمات الشيطان ليعرف أن كيده كان ضعيفاً واهياً وغبياً؛ لأنه مادام قد عرف أن من
يأكل من هذه الشجرة يصير ملكاً أو يبقى من الخالدين فلماذا لم يخطف منها ما يجعله
مَلَكاً أو خالداً؟ وفي هذا درس يبين لنا أن مَن يُزَيّن له ويتصدى له أحد
بالإِغواء يجب عليه أن يمحص إلى أي غواية يسير، وأن يدقق في نتائج ما سوف يفعل.
وإذا كان الشيطان قد قال: ﴿قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى
يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ [الأعراف: ١٤]
فلماذا لم ينقذ نفسه بالأكل من هذه الشجرة وتنتهي
المسألة؟. إذن كان ما يقوله الشيطان كذباً.
ويقول الحق بعد ذلك: ﴿وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا...
﴾
4084
ﯰﯱﯲﯳﯴ ﰔ
«قاسم» مادة فاعل، تأتي للمشاركة، أي
أن هناك طرفين اثنين، كل منهما فاعل في ناحية ومفعول في ناحية أخرى، مثل شارك زيد
عمراً، وهي تعني أيضاً أن عمراً شارك زيداً، وهكذا تكون مادة فاعل وتفاعل، فكل
منهما فاعل من جهة ومفعول من جهة. وفي المعنى نجد الاثنين فاعلاً ومفعولا، إذن
«قاسم» تحتاج إلى عمليتين اثنتين.. فهل جلس إبليس يقسم لآدم ولزوجته، وهما
يقسمان؟. ونقول: لا؛ لأنها تأتي مرة لغير المفاعلة، أو للمفاعلة اللزومية،
والمفاعلة اللزومية تتضح في قوله الحق:
4084
﴿وَوَاعَدْنَا موسى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً
وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ... ﴾ [الأعراف: ١٤٢]
وواعدنا، مثلها مثل فاعل، من الذي واعد؟. إنه الله
الذي وعد موسى عليه السلام، ودخل موسى في الوعد بقبوله الوعد وتوفيته به.
إذن «قاسمهما» أي قبلا القسم ودخلا فيه.
﴿وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين﴾ [الأعراف: ٢١]
و «قاسم»، أي أقسم، ولذلك حينما عاتب ربنا سيدنا آدم
أوضح سبحانه: أنا قلت إنه عدو لك ولزوجك، ولسوف يخرجنكما من الجنة لتتعب وتشقى،
فقال آدم: يا ربي ما كنت أعتقد أن خلقاً من خلقك يقسم بك على الباطل. ولم يأتي على
البال أن خلقاً يقسم بالله على الباطل. وكانت هذه أول خديعة في الخلق. ولذلك نجد
قتادة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - يقول: «المؤمن بالله يُخدع».
«والنبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
ُ عقد على امرأة ودخلت به، ومن كيد النساء وهن زوجات للنبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقد خفن أن يشغف بها حُبًّا، فقلن لها: إن رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، يحب هذه الكلمة، فإذا دخل عليك فقوليها!، قولي:»
أعوذ بالله منك «، ولحظة أن دخل عليها سيدنا رسول الله، قالت له:» أعوذ بالله منك
«. فقال لها: استعذت بمعاذ. ولم يقربها الرسول»، وهذا ما يشرح لنا كيف يُخدع
المؤمن بالله. وها هو ذا سيدنا عبد الله بن عمر كان يعتق من العبيد من يحسن الصلاة
ويتقنها ويؤديها في مواعيدها، ويقف فيها خاشعاً، وحين عرف العبيد ذلك احترفوا
إقامة الصلاة أمام المكان الذي يجلس فيه وكانوا يؤدونها بخشوع، وكان رَضِيَ
اللَّهُ عَنْه يعتقهم، وذهب له من يقول: إن العبيد يخدعونك، فيقول: من خدعنا
بالله، انخدعنا له.
والنصح هنا: إغراء بمخالفة أمر الله، وكان يجب ألا
تكون هناك غفلة من آدم، وكان لابد أن يقارن بين الأمرين، بين غواية الشيطان له
بالأكل، وبين أمر الحق سبحانه الذي قال له ولزوجه: لا تقربا. لكنه لم يفعل.
4085
ويقول الحق بعد ذلك: ﴿فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ
فَلَمَّا... ﴾
4086
ﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓ ﰕ
﴿فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ﴾ أي فأنزلهما من رتبة
الطاعة إلى درك المعصية والذنب مما غرهما وخدعهما من القسم. و «دلاّ» مأخوذة من
دلّى رجليه في البئر كي يرى إن كان فيه ماء أم لا، أو دلَّى جبل الدلو لينزله في
البئر، ومعناها: أنه يفعل الشيء مرة فمرة، و «بغرور» أي بإغراء لكي يوقعهما في
المخالفة، فأظهر لهما النصح وأبطن لهما الغش.
وهنا وقفة تدل على الاصطراع بين الحق والباطل في
النفس، ﴿فَلَمَّا ذَاقَا الشجرة﴾ هذا يدل على أنهما بمجرد المذاق تذكرا أن النزغ
من إبليس جعلهما يذهبان إلى الشجرة. وأن ما أخذاه فقط كان مجرد المذاق، فتنبه
كلاهما إلى جسامة الأمر. ﴿فَلَمَّا ذَاقَا الشجرة بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا
وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجنة﴾ [الأعراف: ٢٢]
و «الخصف» أي تأتي بشيء وتلزقه على شيء لتداري
شيئاً. وقديماً حينما كان يبلى نعل الحذاء، ويظهر به خرق فالإِسكافي يضع عليه رقعة
من الجلد تكون أوسع من الخرق حتى تتمكن منه.
وهكذا فعل آدم وحواء؛ أخذا من ورق الجنة ووضعا ورقة
على ورقة ليداريا السوءة. وقوله الحق: ﴿وَطَفِقَا﴾ يعني وجعلا من ورق الشجر غطاء
للسوءات.
4086
وهنا يقول الحق: ﴿... وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَآ
أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشجرة وَأَقُل لَّكُمَآ إِنَّ الشيطآن لَكُمَا
عَدُوٌ مُّبِينٌ﴾ [الأعراف: ٢٢]
لقد كان التكليف هنا في أمر واحد، والإِباحة في أمور
متعددة، وسبحانه لم يكلفهما إلا بأمر واحد هو عدم الاقتراب من الشجرة، والمباح كان
كثيراً؛ لذلك لم يكن من اللائق أن يتولى عن التكليف. ولم يكن هذا التكليف بالواسطة
ولكن كان بالمباشرة، ولذلك سينفعنا هذا الموقف في الفهم في لقطة للقصة في سورة غير
هذه وهو قوله الحق: ﴿... وعصىءَادَمُ رَبَّهُ فغوى﴾ [طه: ١٢١]
ولم يأت الحق هنا بسيرة المعصية، وقال لهما: ﴿...
أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشجرة وَأَقُل لَّكُمَآ إِنَّ الشيطآن لَكُمَا
عَدُوٌ مُّبِينٌ﴾ [الأعراف: ٢٢]
وسبحانه لا يجرم إلا بنص، وسبق أن قال سبحانه:
﴿وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة﴾ وأوضح: أن هناك عنصراً إغوائياً هو إبليس وعداوته
مسبقة في أنه امتنع عن السجود، وقد طرده الحق لهذا السبب. إذن إنْ آخذهما وعاقبهما
الله بهذا الذنب فهو العادل، وهما اللذان ظلما أنفسهما. وكان لابد أن يكون الجواب:
نعم يا رب نهيتنا، وقلت لنا ذلك. وهذا إيراد للحكم بأقوى الأدلة عليه؛ لأن الحكم
قد يأتي بالإِخبار، وقد يأتي بالاستفهام بالإِيجاب، ويكون أقوى لو جاء بالاستفهام
بالنفي. ﴿... إِنَّ الشيطآن لَكُمَا عَدُوٌ مُّبِينٌ﴾ [الأعراف: ٢٢]
4087
ونحن نعلم أن العدو هو الخصم الذي يريد إلحاق الضرر
والإيذاء بك، و «مبين» أي محيط، وهذا دليل يظهر عداوة الشيطان وإحاطتها؛ لأنه قد
سبق أن أوضح أنه سيأتي من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم. أو بيَّن
العداوة وشديد الخصومة.
ويأتي الإقرار بالذنب من آدم وحواء: ﴿قَالاَ
رَبَّنَا ظَلَمْنَآ... ﴾
4088
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜ ﰖ
وتلك هي الكلمات التي قال الله عنها في سياق آخر:
﴿فتلقىءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التواب
الرحيم﴾ [البقرة: ٣٧]
فكأن الحق سبحانه وتعالى قدَّر غفلة خلقه عن المنهج؛
فشرّع لهم وسائل التوبة إليه، ووسائل التوبة ثلاث مراحل: تشريعها رحمة، ثم الإقبال
عليها من المذنب اعترافا وإنابة، وقبولها منه سبحانه رحمة، فالتشريع يطلب منك أن
تفعل، وحين تتوب يتوب الله عليك.
تشريع التوبة - إذن رحمة، لا بالمذنب فقط، بل وبغيره
أيضاً؛ لأن الله لو لم يشرع التوبة، كان الذي يعمل معصية، ولايجد مغفرة، يستشري في
المعاصي، وإذا استشرى في المعاصي تعب المجتمع كله. ﴿قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ
أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين﴾
[الأعراف: ٢٣]
وهذا هو الموقف بعد الذنب من آدم وزوجته، وهو يختلف
عن موقف إبليس بعد الذنب؛ فإبليس أراد أن يبرر المخالفة:
4088
﴿... قَالَ
أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً﴾ [الإسراء: ٦١]
فماذا قال آدم وحواء؟ :﴿... رَبَّنَا ظَلَمْنَآ
أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين﴾
[الأعراف: ٢٣]
ولذلك كان جزاء إبليس - وهو المتأبي على أوامر الله
وحكمه - أن يطرد من رحمته. وجزاء المعترف بأنه أذنب، وأنه ظلم نفسه أن تُقبل
توبته. إذن لا يصح للناس الذين يقيمون على معصية أن يقول الواحد منهم: «هذه هي
ظروفي»، ويبرر ويحلل ما يفعله من المعاصي، بل على الواحد منهم ألا يطرد نفسه بنفسه
من منطقة الرحمة، وعليه أن يقول: «ما أفعله، حرام، لكن لا أقدر على نفسي» وبذلك لا
يكون قد ردّ الحكم، بل اتهم نفسه بالتقصير واعترف بالذنب، فصار أهلاً للمغفرة
وأهلاً للتوبة.
وهنا نسأل: ما الفرق بين معصية إبليس ومعصية آدم؟.
نقول: إبليس عصى وجاء بحيثية رفض الأمر، لكن آدم عصى وأقر بالذنب وطلب المغفرة.
وحين قال آدم وزوجته حواء: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَآ
أَنفُسَنَا﴾ معاً وفي نَفَس واحد، ونغمة حزينة نادمة، ألا يدل ذلك على أنهما قد
تعلماها؟. إن كلا منهما لو اعتذر لله بمفرده لاختلفا في أسلوب الاعتذار.
وهذا دليل على أنها ملقنة، ولهذا قال ربنا.
﴿فتلقىءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ... ﴾ [البقرة: ٣٧]
وهما قد قالا: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا﴾،
وأنفسنا جمع نَفْس، ولم يقولا «نفسينا»، بل قالا ﴿أَنفُسَنَا﴾ أي أن قلبيهما أيضاً
قد صفيا وخلصا من أثر تلك المعصية، وأن ذلك مطمور وداخل في نفوس ذريتهما.
4089
ويقول الحق بعد ذلك: ﴿قَالَ اهبطوا بَعْضُكُمْ...
﴾
4090
ﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪ ﰗ
ونلتفت لنجد أن هناك أمراً قد يسبق لإِبليس بالهبوط،
وهنا أمر آخر بالهبوط، وبالله لو كانت جنة الخلود هي محل إقامتهما، وآدم مخلوق لها
ثم عصى ثم تاب لما خرجا منها أبداً. لكنه سبحانه أمر آدم بأن يهبط إلى الأرض التي
جعله خليفة فيها، ليباشر مهمة الخلافة في إطار التجربة التي وقعت له، وعليه أن
يحترم أمر الله في كل تكليف، وأن يحترم نهي الله في كل تكليف، وليحذر عداوة
الشيطان فإنه سيوسوس له. وقد جرب ذلك بنفسه، فلينزل مزوداً بالتجربة، وليس له عذر
من بعد ذلك. ﴿قَالَ اهبطوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾.
والأمر هنا للجماعة؛ ولم يقل لهما اهبطا. وفي آية
ثانية قال: ﴿قَالَ اهبطا مِنْهَا جَمِيعاً... ﴾ [طه: ١٢٣]
وذلك لنعرف أن ورود القصة في أماكن متعددة جاء لتعطي
لقطات كثيرة. والأمر هنا جاء بقوله: ﴿اهبطوا﴾ لأن الهبوط اشترك فيه الثلاثة؛ آدم
وحواء، وإبليس.. والعداوة مسبقة ولا ندعيها. العداوة بين طرفين: اثنان في طرف هما
آدم وحواء، وواحد في طرف هو إبليس. ويريد الحق لنا بيان الحقائق وأن المتكلم إله،
إنّ كل حرف عنده بميزان؛ ولذلك نجده سبحانه يقول لنا: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ
القرآن... ﴾ [النساء: ٨٢]
أي إياك أن تأخذ واجهة النص، ولكن ابحث في خلفيات
النص، ولا تأخذ واجهة اللفظ، بل انظر إلى ما وراء الألفاظ.
4090
﴿قَالَ اهبطوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ
فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ﴾ [الأعراف: ٢٤]
وكلمة «عدو» تعني وجود صراع، ومعارك سوف تقوم بين
أولاد آدم بعضهم مع بعض، أو تقع العداوة بينهم وبين أعدائهم من سكان الأرض من جن
وغيرهم، لكنها لمدة محدودة، ولذلك قال: ﴿وَلَكُمْ فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ
إلى حِينٍ﴾.
أي أن لكم استقراراً في الأرض ومتاعاً إلى حين.
وصراع صاحب الحق في الحق يجب أن يأخذه على أنه متاع في الدنيا ولا يأخذه على أنه
معركة بلا جزاء، لا، فأنت تجاهد وتأخذ جزاء كبيراً على الجهاد وهذا متاع.
ويقول الحق بعد ذلك: ﴿قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ
وَفِيهَا... ﴾
4091
ﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲ ﰘ
كأنه قال: ﴿وَلَكُمْ فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ
وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ﴾ فأحب أن يعطينا الصور لرحلة الحياة، ويرسم لنا علاقتنا
بالأرض التي قال فيها: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً... ﴾ [البقرة: ٣٠]
فقد ربطنا بالأرض. إيجاداً من طينها، ومتعة بما فيها
من ميزات، وخيرات وثمرات، ثم نموت لنعود لها ونبعث من بعد ذلك. فالإِنسان منا من
الأرض، منها يحيا وفيها يموت، ويذهب إلى أصله ومرجعه، إلى الأم الأرض، فهي تكفته
وتضمه وتأخذه في حضنها فهي الحانية عليه وبخاصة في وقت ضعفه. وساعة ما يكون
الإِنسان في حالته الطيبة، وله أخ حالته عكس ذلك فإن قلب الأم إنما يكون مع
الضعيف، ومع المريض، ومع الصغير.
والأرض هي التي تأخذ كل البشر، تأخذ الإِنسان وتمص
منه الأذى، وتداري
4091
رائحته، أمّا أحبابه في الدنيا وإخوانه، فقد سارعوا
بمواراته التراب تفادياً لرحلة التحلل. وبمجرد أن يموت الإنسان، أول ما يُنْسىَ هو
اسمه؛ فيقولون: «أين الجثة»، ولا يقولون: «أين فلان». وبعد الكفن يوضع الجثمان في
النعش، ليوارى في التراب ويدمدم اللحاد عليه برجليه.
وينتقل الحق بعد ذلك بالخطاب إلى أبناء آدم فيقول:
﴿يابنيءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا... ﴾
4092
ﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈ ﰙ
وكلمة ﴿يابنيءَادَمَ﴾ لفت إلى أن تتذكروا ماضي أبيكم
مع عدوكم المبين، إبليس، أنتم أولاد آدم، والشيطان موجود، فانتبهوا. لقد أنزل الحق
عليكم لباسا يواري سوءاتكم؛ لأن أول مخالفة حدثت كشفت السوءة، والإنزال يقتضي جهة
علو لنفهم أن كل خير في الأرض يهبط مدده من السماء، وسبحانه هو من أنزل اللباس
لأنه هو الذي أنزل المطر، والمطر روى بذور النبات فخرجت النباتات التي غزلناها فصارت
ملابس، وكأنك لو نسبت كل خير لوجدته هابطا من السماء. ولذلك يمتن الحق سبحانه
وتعالى على عباده فيقول: ﴿وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأنعام ثَمَانِيَةَ
أَزْوَاجٍ... ﴾ [الزمر: ٦]
نعم هو الذي أنزل من الأنعام أيضاً لأن السببية في
النبات من مرحلة أولى، والسببية في الحيوان من مرحلة ثانية، فهو الذي جعل النبات
يخرج من الأرض ليتغذى عليه الحيوان، ويقول سبحانه أيضاً:
4092
﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبينات
وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب والميزان لِيَقُومَ الناس بالقسط وَأَنزَلْنَا
الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ... ﴾ [الحديد: ٢٥]
نعم فسبحانه هو من أنزل الحديد أيضاً؛ لأننا نأخذه
من الأرض التي خلقها الله، وهذا دليل على أن التنزيلات إنما أراد الله أن يحمي بها
كل منهج. ﴿يابنيءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي
سَوْءَاتِكُمْ... ﴾ [الأعراف: ٢٦]
فإذا كنا قد أنزلنا اللباس يواري سوءات الحس وسوءات
المادة، كذلك أنزلنا اللباس الذي يواري سوءات القيم. فكلما أنكم تحسّون وتدركون أن
اللباس المادي يداري ويواري السوءة المادية الحسية فيجب أن تعلموا أيضاً أن اللباس
الذي ينزله الله من القيم إنما يواري ويستر به سواءتكم المعنوية. ولباس الحياة
المادية لم يقف عند موارة السوءات فقط، بل تعدى ذلك إلى ترف الحياة أيضاً. لذلك
قال الحق: ﴿... قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ
وَرِيشاً وَلِبَاسُ التقوى ذلك خَيْرٌ ذلك مِنْ آيَاتِ الله لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾
[الأعراف: ٢٦]
والريش كساء الطير، وقديماً كانوا يأخذون ريش الطير
ليزينوا به الملابس. وكانوا يضعون الريش على التيجان، وأخذ العوام هذه الكلمة
وقالوا: فلان مريش أي لا يملك مقومات الحياة فقط، بل عنده ترف الحياة أيضاً، فكأن
هذا القول الكريم قد جاء بمشروعية الترف شريطة أن يكون ذلك في حل. وقيل أن يلفتنا
الحق سبحانه وتعالى إلى مقومات الحياة لفتنا إلى الجمال في الحياة، فقال سبحانه:
﴿والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً... ﴾ [النحل: ٨]
4093
والركوب لتجنب المشقة، والزينة من أجل الجَمَال.
وكذلك يقول الحق سبحانه: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ
الله التي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرزق... ﴾ [الأعراف: ٣٢]
بل سبحانه طلب زينتنا في اللقاء له في بيته فيقول:
﴿يابنيءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ... ﴾ [الأعراف: ٣١]
إذن فهذا أمر بالزينة، وهنا في الآية التي نحن بصدد
خواطرنا عنها يقول سبحانه: ﴿وَرِيشاً وَلِبَاسُ التقوى ذلك خَيْرٌ.
..﴾ [الأعراف: ٢٦]
نعم إن لباس التقوى خير من ذلك كله؛ لأن اللباس
المادي يستر العورة المادية، وقصاراه أن يكون فيه مواراة وستر لفضوح الدنيا، لكن
لباس التقوى يواري عنا فضوح الآخرة.
أو لباس التقوى هو الذي تتقون به أهوال الحروب؛ إنّه
خير من لباس الزينة والرياش لأنكم تحمون به أنفسكم من القتل، أو ذلك اللباس - لباس
التقوى - خير من اللباس المادي وهو من آيات الله، أي من عجائبه، وهو من الأشياء
اللافتة؛ فالإِنسان منكم مكون من مادة لها احتياجات مادية وعورات مادية، وهناك
أمور قيمية لا تنتظم الحياة إلا بها، وقد أعطاك الحق مقومات الحياة المادية، وزينة
الحياة المادية، وأعطاك ما تحيا به في السلم والحرب، ومنهج التقوى يحقق لك كل هذه
المزايا. فخذ الآيات مما تعلم ومما تحس لتستنبط منها ما يغيب عنك مما لا تحس.
4094
ويقول الحق بعد ذلك: ﴿يابنيءَادَمَ لاَ
يَفْتِنَنَّكُمُ... ﴾
4095
ﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩ ﰚ
قبل أن يطلب منا سبحانه ألا نفتتن بالشيطان، أوضح
أنه قد رتب لنا كل مقومات الحياة، وعلينا أن نتذكر موقف الشيطان، من أبينا آدم
وإِغواءه له.
والفتنة في الأصل هي الاختبار، وتُطلق - أحياناً -
على الأثر السيء حيث تكون أشد من القتل، لكن هل يسقط الإِنسان في كل فتنة؟ لا؛ لأن
الفتنة هي الاختبار، وفي الاختبار إما أن ينجح الإِنسان، وإمّا أن يرسب، فإن نجح
أعطته الفتنة خيراً وإن رسب تعطه شرًّا.
وبعد أن ذكر الحق سبحانه وتعالى قصة خلق آدم،
وأعلمنا أنه خلقه للخلافة في الأرض، وأن موضوع الجنة هو حلقة مقدمة لتلقي الخلافة؛
لأنه إذا ما أصبح خليفة في الأرض؛ فلله منهج يحكمه في كل حركاته، ومادام له منهج
يحكمه في كل حركاته فرحمة به لم ينزل الله للأرض ابتداءً ليتلقى المنهج بدون تدريب
واقعي على المنهج، فجعل الجنة مرحلة من مراحل ما قبل الاستخلاف في الأرض، وحذره من
الشيطان الذي أبى أن يسجد له، وأراد منه أن يأخذ التجربة في التكليف. وكل تكليف
محصور في «افعل كذا» و «لا تفعل كذا» ؛ لذلك شاء الله أن يجعل له في الجنة فترة
تدريب على المهمة؛ لينزل إلى الأرض مباشراً مهمة الخلافة بعد أن زود بالتجربة
الفعلية الواقعية، وأوضح له: أَنْ كُلْ مِنْ كُلِّ ما في الجنة، ولكن لا تقرب هذه
الشجرة. و «كُلْ» أَمْرٌ، و «ولا تقرب» نَهْيٌّ. وكل تكليف شرعي هو بين «لا تفعل»
وبين «افعل».
4095
وبعد ذلك حذره من الشيطان الذي يضع ويجعل له العقبات
في تنفيذ منهج الله، فلما قرب آدم وحواء وأكلا منها؛ خالفا أمر الله في ﴿وَلاَ
تَقْرَبَا﴾، وأراد الله أن يبين لهما بالتجربة الواقعية أن مخالفة أمر الله لابد
أن ينشأ عنها عورة تظهر في الحياة، فبدت له ولزوجته سواءتهما، فلما بدت لهما
سواءتهما علم كل منهما أن مخالفة أمر الله تُظهر عورات الأرض وعورات المجتمع،
فأمره الله: أن اهبط إلى الأرض مزوداً بهذه التجربة.
ولما هبط آدم وزوجه إلى الأرض أرسل إليه منهج السماء
بعد التجربة، وأراد أن يبين لنا أنه عصى أمر ربه في قوله: ﴿وَلاَ تَقْرَبَا﴾،
وتلقى من ربه كلمات فتاب عليه، وأراد سبحانه أن يبين لنا أن آدم يتمثل فيه أنه بشر
يصيب ويخطئ، وتدركه الغفلة، وقد يخالف منهج الله في شيء، ثم يستيقظ من غفلته
فيتوب، وبعد أن كلفه أن يبلغ رسالة الله وصار نبيًّا؛ جاءت له العصمة فلا يغفل ولا
ينسى في تبليغ الرسالة.
ولذلك يجب أن نفطن إلى النص القرآني:
﴿... وعصىءَادَمُ
رَبَّهُ فغوى﴾ [طه: ١٢١]
إنّ هذه طبيعة البشر أن يعصي ثم يتوب إذا أراد
التوبة، ولابد أن نفطن أيضاً إلى قوله الحق: ﴿ثُمَّ اجتباه رَبُّهُ﴾
إذن فالاصطفاء جاء بعد المعصية؛ لأن عصيانه كان
أمراً طبيعيًّا لأنه بشر، يخطئ ويصيب، ويسهو ويغفل. ولكن بعد أن خرج من الجنة
اجتباه الله ليكون نبيًّا ورسولاً، ومادام قد صار نبيًّا ورسولاً فالعصمة تأتي له:
﴿ثُمَّ اجتباه رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وهدى﴾ [طه: ١٢٢]
إذن لا يصح لنا أن نقول: كيف يعصي آدم وهو نبي؟!
نقول: تنبه إلى أن
4096
النبوة لم تأته إلا بعد أن عصى وتاب؛ فهو يمثل مرحلة
البشرية لأنه أبو البشرية كلها، والبشرية منقسمة إلى قسمين: بشر مبلغون عن الله،
وأنبياء يبلغون عن الله، فله في البشرية أنه عصى، وله في النبوة أن ربه قد اجتباه
فتاب عليه وهداه. والذين يقولون: إن آدم كان مخلوقاً للجنة، نقول لهم: لا. افهموا
عن الله، لأنه يقول: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً﴾.
إن أمر الجنة كان مرحلة من المراحل التي سبقت
الخلافة في الأرض. إنها كانت تدريباً على المهمة التي سيقوم بها في الأرض، والا
فلو أن آدم قد خلقه الله للجنة وأن المعصية أخرجته، إلا أن الله قد قبل منه توبته،
وما دام قبل توبته فكان يجب أن يبقيه في الجنة، ومن هنا نقول ونؤكد أن الجنة كانت
مرحلة من المراحل التي سبقت الخلافة في الأرض. وبعد ذلك يريد الحق سبحانه وتعالى
أن يخلع علينا التجربة لآدم حتى نتعظ بها، وأن نعرف عداوة الشيطان لنا، وألا نقع
في الفتنة كما وقع آدم. ﴿يابنيءَادَمَ لاَ
يَفْتِنَنَّكُمُ الشيطان كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِّنَ الجنة يَنزِعُ
عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَآ... ﴾ [الأعراف: ٢٧]
وهذا نهي لبني آدم وليس نهيا للشيطان، وهذا في مُكنة
الإنسان أن يفعل أو لا يفعل، فسبحانه لا ينهى الإنسان عن شيء ليس في مكنته، بل
ينهاه عما في مكنته، والشيطان قد أقسم أن يفتنه وسيفعل ذلك لأنه أقسم وقال:
﴿فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾. فإياكم أن تنخدعوا بفتنة الشيطان؛
لأن أمره مع أبيكم واضح، ويجب أن تنسحب تجربته مع أبيكم عليكم فلا يفتننكم كما
أخرج أبويكم من الجنة، ويتساءل البعض: لماذا لم يقل الله: لا يفتننكم الشيطان كما
فتن أبويكم، وقال: ﴿لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشيطان كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ
مِّنَ الجنة﴾ ؟. ونقول هذا هو السمو والافتنان الراقي في الأداء البياني للقرآن.
وإن هذا تحذير من فتنة الشيطان حتى لا يخرجنا من جنة
التكليف. كما فتن أبوينا فأخرجهما من جنة التجربة. ويقال عن هذا الأسلوب إنه أسلوب
احتباك،
4097
وهو أن تجعل الكلام شطرين وتحذف من كل منهما نظير ما
أثبت في الآخر قصد الاختصار. وهذا هو الأسلوب الذي يؤدي المعنى بمنتهى الإيجاز؛
لينبه ذهن السامع لكلام الله.
فيلتقط من الأداء حكمة الأداء وإيجاز الأداء، وعدم
الفضول في الأساليب. ﴿لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشيطان كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ
مِّنَ الجنة... ﴾ [الأعراف: ٢٧]
والفتنة - كما علمنا - هي في الأصل الاختبار حتى
ننقي الشيء من الشوائب التي تختلط به، فإذا كانت الشوائب في ذهب فنحن نعلم أن
الذهب مخلوط بنحاس أو بمعدن آخر، وحين نريد أن نأخذ الذهب خالصاً نفتنه على النار
حتى ينفض ويزيل عنه ما علق به. كذلك الفتنة بالنسبة للناس، إنها تأتي اختباراً
للإنسان لينقي نفسه من شوائب هذه المسألة، وليتذكر ما صنع إبليس بآدم وحواء. فإذا
ما جاء ليفتنك فإياك أن تفتن؛ لأن الفتنة ستضرك كما سبق أن الحقت الضرر بأبيك آدم
وأمك حواء. والشيطان هو المتمرد على منهج الله من الجن، والجن جنس منه المؤمن ومنه
الكافر. فقد قال الحق سبحانه: ﴿وَأَنَّا مِنَّا الصالحون وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ...
﴾ [الجن: ١١]
والشيطان المتمرد من هذا الجنس على منهج الله ليس
واحداً، واقرأ قول الحق سبحانه: ﴿أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ
مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ... ﴾ [الكهف: ٥٠]
وهنا يقول الحق سبحانه: ﴿إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ
وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ... ﴾ [الأعراف: ٢٧]
و «قبيله» هم جنوده وذريته الذين ينشرهم في الكون
ليحقق قَسَمَه:
4098
﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾
[ص: ٨٢]
إذن ففتنة الشيطان إنما جاءت لتخرج خلق الله عن منهج
الله، وحينما عصى إبليس ربّه عزّ عليه ذلك، فبعد أن كان في قمة الطاعة صار عاصيًّا
لأمر الله معصية أَدَّته وأوصلته إلى الكفر؛ لأنه ردّ الحكم على الله. إن ذلك قد
أوغر صدره وأحنقه، وجعله يوغل ويسرف في عداوة الإِنسان لأنه عرف أن طرده ولعنه كان
بسبب آدم وذريته. ﴿إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ
تَرَوْنَهُمْ... ﴾ [الأعراف: ٢٧]
وهذا يدل على أن المراد ذرية الشيطان، فلو كان
المراد شياطين الإِنس معهم لما قال: ﴿إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ
حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ﴾.
وعلى ذلك فهذه الآية خاصة بالذرية، ويعلمنا الحق
سبحانه وتعالى أن نتنبه إلى أن الشيطان لن يكتفي بنفسه ولن يكتفي بالذرية بل سيزين
لقوم من البشر أن يكونوا شياطين الإِنس كما وُجد شياطين الجن، وهم من قال فيهم
سبحانه: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإنس والجن
يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول غُرُوراً... ﴾ [الأنعام: ١١٢]
وكلمة ﴿زُخْرُفَ القول﴾ تعني الاستمالة التي تجعل
الإِنسان يرتكب المعصية وينفعل لها، ويتأثر بزخارف القول. وكل معصية في الكون هكذا
تبدأ من زخرف القول، فللباطل دعاته، ومروجوه، ومعلنوه، إنهم يزينون للإِنسان بعض
شهواته التي تصرفه عن منهج الله، ونلاحظ أن أعداء الله، وأعداء منهج الله يترصدون
مواسم الإِيمان في البشر، فإذا ما جاء موسم الإِيمان خاف أعداء الله أن يمر الموسم
تاركاً هبة في نفوس الناس، فيحاولوا أن يكتلوا جهودهم حتى يحرموا الناس نفحة
الموسم، فإذا ما حرموا الناس من نفحة الموسم فقد حققوا
4099
غرضهم في العداوة للإِسلام.
﴿إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ﴾.
إن الشيطان يراكم أيها المكلفون هو وقبيله. والقبيل
تدل على جماعة أقلها ثلاثة من أجناس مختلفة أو جماعة ينتسبون إلى أب وأم واحدة.
واختلف العلماء حول المراد من هذا القول الكريم؛ فقال قوم: «إنهم جنوده وذريته».
ويقصدون جنوده من البشر، ولم يلتفتوا إلى قول الحق: ﴿مِنْ حَيْثُ لاَ
تَرَوْنَهُمْ﴾ فلا بد أن يكون المراد بالقبيل هنا الذرية؛ لأننا نرى البشر، وفي قوله
الحق تغليظ لشدة الحذر والتنبه؛ لأن العدو الذي تراه تستطيع أن تدفع ضرره، ولكن
العدو الذي يراك ولا تراه عداوته شديدة وكيده أشد، والجن يرانا ولا نراه، وبعض من
العلماء علل ذلك لأننا مخلوقون من طين وهو كثيف، وهم مخلوقون من نار وهي شفيفة.
فالشفيف يستطيع أن يؤثر في الكثيف، بدليل أننا نحس
حرارة النار وبيننا وبينها جدار، ولكن الكثيف لا يستطيع أن يؤثر في الشفيف ولا
ينفذ منه. إذن فنفوذ الجن وشفافيته أكثر من شفافية الإِنسان، ولذلك أخذ خفة حركته.
ونحن لا نراه.
إذن معنى ذلك أن الشيطان لا يُرى، ولكن إذا كان ثبت
في الآثار الصحيحة أن الشيطان قد رُئى وهو من نار، والملائكة من نور، والاثنان كل
منهما جنس خفي مستور، وقد تشكل المَلك بهيئة إنسان، وجاء لرسول الله وقال لنا
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «هذا جبريل جاء ليعلم الناس دينهم».
وعلى ذلك رأى السابقون المعاصرون لرسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جبريل لا على صورة ملائكيّته، ولكن على صورة تتسق مع
جنس البشر، فيتمثل لهم مادة. «وقد ثبت أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ رأى الشيطان وقال:» إن عفريتا من الجن جعل يفتك عليّ البارحة ليقطع
عليّ الصلاة، وإن الله أمكنني منه فَذَعَتّهُ فلقد هممت أن أربطه إلى جنب سارية من
سوراي المسجد حتى تصبحوا تنظرون إليه أجمعون «.
4100
وذلك من أدب النبوة. إذن فالشيطان يتمثل وأنت لا
تراه على حقيقته، فإذا ما أرادك أن تراه.. فهو يظهر على صورة مادية. وقد ناقش
العلماء هذا الأمر نقاشاً يدل على حرصهم على فهم كتاب الله، ويدل على حرصهم على
تجلية مراداته وأسراره، فقال بعضهم: حين يقول الله إن الشيطان يراكم هو وقبيله من
حيث لا ترونهم، لابد أن نقول: إننا لن نراه.
وأقول: إن الإنسان إن رأى الجني فلن يراه على صورته،
بل على صورة مادية يتشكل بها، وهذه الصورة تتسق وتتفق مع بشرية الإنسان؛ لأن الجني
لو تصور بصورة مادية كإنسان أو حيوان أو شيء آخر يمكن أن يراه الإنسان، وحينئذ
لفقدنا الوثوق بشخص من نراه، هل هو الشيء الذي نعرفه أو هو شيطان قد تمثل به؟
إن الوثوق من معرفة الأشخاص أمر ضروري لحركة الحياة،
وحركة المجتمع؛ لأنك لا تعطف على ابنك إلا لأنك تعلم أنه ابنك ومحسوب عليك، ولا
تثق في صديقك إلا إذا عرفت أنه صديقك.
ولا تأخذ علماً إلا من عالم تثق به. وهب أن الشيطان
يتمثل بصورة شخص تعرفه، وهنا سيشكك هذا الشيطان ويمنع عنك الوثوق بالشخص الذي
يتمثل في صورته. وأيضاً أعدى أعداء الشيطان هم الذين يبصرون بمنهج الله وهم
العلماء، فما الذي يمنع أن يتشكل الشيطان بصورة عالم موثوق في علمه، ثم يقول
كلاماً مناقضاً لمنهج الله؟.
إذن فالشيطان لا يتمثل، هكذا قال بعض العلماء، ونقول
لهم: أنتم فهمتم أن الشيطان حين يتمثل، يتمثل تمثلاً استمرارياً، لا. هو يتمثل تمثل
الومضة؛ لأن الشيطان يعلم أنه لو تشكل بصورة إنسان أو لصورة مادية لحكمته الصورة
التي انتقل إليها، وإذا حكمته الصورة التي انتقل إليها فقد يقتله من يملك سلاحاً،
إنه يخاف منا أكثر مما نخاف منه، ويخاف أن يظهر ظهوراً استمرارياً؛ لذلك يختار
التمثل كومضة، ثم يختفي، والإنسان إذا تأمل الجني المشكل. سيجد فيه شيئاً مخالفاً،
كأن يتمثل - مثلا - في هيئة رجل له ساق عنزة لتلتفت إليه كومضة ويختفي؛ أنه يخاف
أن تكون قد عرفت أن الصورة التي يتشكل بها تحكمه. وإذا عرفت ذلك أمكنك أن تصرعه.
4101
ويتابع الحق سبحانه: ﴿... إِنَّا جَعَلْنَا الشياطين
أَوْلِيَآءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأعراف: ٢٧]
والشياطين من جَعْل الله، وسبحانه خلّى بينهم وبين
الذين يريدون أن يفتنوهم والا لو أراد الله منعهم من أن يفتنوهم. لفعل.. إذن فكل
شيء في الوجود، أو كل حدث في الوجود يحتاج إلى أمرين: طاقة تفعل الفعل، وداع لفعل
الفعل. فإذا ما كانت عند الإنسان الطاقة للفعل، والداعي إلى الفعل، فإبراز الفعل
في الصورة النهائية نستمدها من عطاء الله من الطاقة التي منحها الله للإنسان. فأنت
تقول: العامل النساج نسج قطعة من القماش في غاية الدقة، ونقول: إن العامل لم ينسج،
وإنما الآلة، والآلة لم تنسج، لكن الصانع الذي صنعها أرادها كذلك، والصانع لم
يصممها الا بالعالم الذي ابتكر قانون الحركة بها.
إذن فالعامل قد وجّه الطاقة المخلوقة للمهندس في أن
تعمل، واعتمد على طاقة المهندس الذي صنعها في المصنع، والمهندس اعتمد على طاقة
الابتكار وعلى العالم الذي ابتكر قانون الحركة، والعالم قد ابتكرها بعقل خلقه
الله، وفي مادة خلقها الله.
إذن فكل شيء يعود إلى الله فعلاً؛ لأنه خالق الطاقة،
وخالق من يستعمل الطاقة، والإنسان يوجه الطاقة فقط، فإذا قلت: العامل نسج يصح قولك،
وإذا قلت: الآلة نسجت، صح قولك، وإذا قلت: إن المصنع هو الذي نسج صح قولك.
إذن فالمسألة كلها مردها في الفعل إلى الله، وأنت
وجهت الطاقة المخلوقة لله بالقدرة المخلوقة لله في فعل أمر من الأمور. فإذا قال
الله ﴿إِنَّا جَعَلْنَا الشياطين﴾ أي خلّينا بينهم وبينهم المفتونين بهم، غير أننا
لو أردنا الا يفتنوا أحداً لما فتنوه. وهذا ما فهمه إبليس. ﴿... لأُغْوِيَنَّهُمْ
أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين﴾ [ص: ٨٢ - ٨٣]
4102
إذن من يريده الله معصوماً لا يستطيع الشيطان أن
يغويه، وتعلم الشياطين أن الله خلّى بينهم في الاختيار، هذه اسمها تخلية؛ ولذلك لا
معركة بين العلماء. فمنهجهم أن الطاقة مخلوقة لله، ونسب كل فعل إلى الله، ومنهم من
رأى أنَّ موجّه الطاقة من البشر فينسب الفعل للبشر، ومنهم من رأى طلاقة قدرة الله
في أنه الفاعل لكل شيء، ومنهم من قال: إن الإنسان هو الذي فعل المعصية.. أي أنه
وجه الطاقة إلى عمل والطاقة صالحة له، فربنا يعذبه على توجيه الطاقة للفعل الضار
ولا خلاف بينهم جميعاً. ﴿... إِنَّا جَعَلْنَا الشياطين أَوْلِيَآءَ لِلَّذِينَ
لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأعراف: ٢٧]
إذن جعل الله الشياطين أولياء لمن لم يؤمن، ولكن الذي
آمن لا يتخذه الشيطان وليًا.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: ﴿وَإِذَا فَعَلُواْ
فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا... ﴾
4103
ﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣ ﰛ
والفاحشة مأخوذة من التفحش أي التزايد في القبح،
ولذلك صرفها بعض العلماء إلى لون خاص من الذنوب، وهو الزنا، لأن هذا تزيد في
القبح، فكل معصية يرتكبها الإنسان تنتهي بأثرها، لكن الزنا يخلف آثاراً.. فإمّا أن
يوأد المولود، وإما أن تجهض المرأة، وإما أن تلد طفلها وتلقيه بعيداً، ويعيش
طريداً في المجتمع لا يجد مسئولاً عنه، وهكذا تصبح المسألة ممتدة امتداداً أكثر من
أي معصية أخرى. وتصنع هذه المعصية الشك في المجتمع. ولنا أن نتصور إن إنساناً يشك
في أن من ينسبون إليه ويحملون اسمه ليسوا من صلبه، وهذه بلوى
4103
كبيرة للغاية. والذين قالوا: إن الفاحشة المقصود بها
الزنا نظروا إلى قول الله سبحانه: ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً
وَسَآءَ سَبِيلاً﴾ [الإسراء: ٣٢]
أو الفاحشة هي ما فيه حد، أو الفاحشة هي الكبائر،
ونحن نأخذها على أنها التزيد في القبح على أي لون من الألوان.
فما هي الفاحشة المقصودة هنا؟. إنها الفواحش التي
تقدمت في قوله: ﴿مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ... ﴾ [المائدة:
١٠٣]
وكذلك ما جاء في قوله تعالى: ﴿وكذلك زَيَّنَ
لِكَثِيرٍ مِّنَ المشركين قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ... ﴾ [الأنعام: ١٣٧]
وكذلك في قوله الحق سبحانه: ﴿وَجَعَلُواْ للَّهِ
مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحرث والأنعام نَصِيباً فَقَالُواْ هذا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ
وهذا لِشُرَكَآئِنَا... ﴾ [الأنعام: ١٣٦]
أو أن المقصود أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة، فيطوف
الرجال نهاراً، والنساء يطفن ليلاً، لماذا؟. لأنهم ادَّعَوْا الورع. وقالوا: نريد
أن نطوف إلى بيت ربنا كما ولدتنا أمهاتنا، وأن نتجرد من متاع الدنيا، ولا نطوف
ببيت الله في ثياب عصينا الله فيها.
وقولهم: ﴿وَجَدْنَا عَلَيْهَآ آبَاءَنَا﴾ تقليد،
والتقليد لا يعطي حكماً تكليفياً، وإن
4104
أعطى علماً تدريبيا، بأن ندرب الأولاد على مطلوب
الله من المكلف ليستطيعوا ويألفوا ما يكلفون به عندما يصلون إلى سن التكليف. ومما
يدل على أن التقليد لا يعطي حقيقة، أنك تجد المذهبين المتناقضين - الشيوعية
والرأسمالية مثلاً - مقلدين؛ لهذا المذهب مقلدون، ولهذا المذهب مقلدون. فلو أن
التقليد معترف به حقيقة لكان التقليدان المتضادان حقيقة، والمتضادان لا يصبحان
حقيقة؛ لأنهم - كما يقولون - الضدان لا يجتمعان، هذا هو الدليل العقلي في إبطال
التقليد. ولذلك نلاحظ في أسلوب الأداء القرآني أنه أداء دقيق جداً؛ فالذي يتكلم
إله. ﴿وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَآ آبَاءَنَا والله
أَمَرَنَا بِهَا﴾ [الأعراف: ٢٨]
والرد من الله عليهم أنه سبحانه لم يأت في مسألة
التقليد بردّ لأنه بداهة لا يؤدي إلى حقيقة، بل قال: ﴿... قُلْ إِنَّ الله لاَ
يَأْمُرُ بالفحشآء أَتَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: ٢٨]
وهذا رد على قولهم: والله أمرنا بها. وأين الرد على
قولهم: ﴿وَجَدْنَا عَلَيْهَآ آبَاءَنَا﴾ ؟.
نقول إنه أمر لا يحتاج إلى رد؛ لأنه أمر يرفضه العقل
الفطري، ولذلك ترك الله الرد عليه؛ لوضوح بطلانه عند العقل الفطري، وجاء بالرد على
ادعائهم أن الله يأمر بالفحشاء، فالله لا يأمر بالفحشاء. ثم كيف كان أمر الله
لكم؟. أهو أمر مباشر.. بمعنى أنه قد أمر كل واحد منكم أن يرتكب فاحشة؟ ألم تنتبهوا
إلى قول الحق سبحانه: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً
أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً... ﴾ [الشورى: ٥١]
أم بلغكم الأمر بالفاحشة عن طريق نبي فكيف ذلك وأنتم
تكذبون مجيء الرسول؟. وهكذا يكون قولكم مردوداً من جهتين: الجهة الأولى: إنه لا
طريق
4105
إلى معرفة أمر الله إلا بأن يخاطبكم مباشرة أو
يخاطبكم بواسطة رسل؛ لأنكم لستم أهلاً للخطاب المباشر، والجهة الثانية: أنكم
تنكرون مسألة الأنبياء والرسل. فأنتم لم يخاطبكم الله بالمباشرة أو بواسطة الرسل
فلم يبق إلا أن يقال لكم: ﴿... أَتَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾
[الأعراف: ٢٨]
ولا جواب على السؤال إلا بأمرين: إما أن يقولوا:
«لا» فقد كذبوا أنفسهم، وإما أن يقولوا: «نعم» ؛ فإذا قالوا: نعم نقول على الله ما
لا نعلم؛ فقد فضحوا أنفسهم وأقروا بأن الله لم يأمر بالفاحشة، بل أمر الله بالقسط،
لذلك يقول سبحانه بعد ذلك: ﴿قُلْ أَمَرَ رَبِّي بالقسط... ﴾
4106
ﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶ ﰜ
والقسط هو العدل من قسط قِسطاً، وأمّا قاسط فهي اسم
فاعل من قسط قَسْطاً وقَسُوطاً أي جار وعدل عن الحق، والقاسطون هم المنحرفون
والمائلون عن الحق والظالمون، كلمة العدل هي التسوية، فإن ملت إلى الحق، فذلك
العدل المحبوب. وإن ملت إلى الباطل، فذلك أكره مكروه ﴿قُلْ أَمَرَ رَبِّي بالقسط﴾.
وهذه جملة خبرية. ﴿وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ
كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ [الأعراف: ٢٩]
وهذا فعل أمر، وقد يتبادر إلى الذهن إن هذا من عطف
الأمر على الخبر، ولكن لنلتفت أن الحق يعطفها على «قل»، فكأن المقصود هو أن يقول:
﴿قُلْ أَمَرَ رَبِّي بالقسط وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾.
4106
والوجه هو السمة المعينة للشخص؛ لأن الإنسان إن أخفى
وجهه لن تعرفه إلا أن كان له لباس مميز لا يرتديه الا هو. والوجه أشرف شيء في
التكوين الجسمي، ولذلك كان السجود هو وضع الوجه في الأرض، وهذا منتهى الخضوع لأمر
الله بالسجود؛ لأن السجود من الفاعل المختار وهو الإنسان يكون بوضع الجبهة على
الأرض. وكل شيء خاضع لحكم الله نقول عنه: إنه ساجد. ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله
يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال
والشجر والدوآب... ﴾ [الحج: ١٨]
والشجر يسجد وهو نبات، والدواب تسجد وهي من جنس
الحيوان، والشمس والقمر والنجوم والجبال من الجماد وهي أيضا ساجدة، لكن حين جاء
الحديث عن الإنسان قسمها سبحانه وقال: ﴿وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس وَكَثِيرٌ حَقَّ
عَلَيْهِ العذاب... ﴾ [الحج: ١٨]
لأن الإنسان له خاصية الاختيار، وبقية الكائنات ليس
له اختيار. إذن فالسجود قد يكون لغير ذي وجه، والمراد منه مجرد الخضوع، أما
الإنسان فالسجود يكون بالوجه ليعرف أنه مستخلف وكل الكائنات مسخرة لخدمته وطائعة
وكلها تسبح ربنا، فإذا كان السيد الذي تخدمه كل هذه الأجناس حيواناً، ونباتاً،
وجماداً قد وضع وجهه على الأرض فهو خاضع من أول الأمر حين نقول عنه إنه ساجد.
﴿وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ... ﴾ [الأعراف: ٢٩]
والإقامة أن تضع الشيء فيما هيىء له وخُلق وطُلب
منه، وإن وجهته لناحية ثانية تكون قد ثنيته وأملته وحنيته، وعَوِّجته. إذن فإقامة
الوجه تكون بالسجود؛ لأن الذي سخر لك هذا الوجود وحكمك بمنهج التكليف هو من جعلت
وجهك في الأرض من أجله، وإن لم تفعل فأنت تختار الاعوجاج لوجهك، واعلم أن
4107
هذا الخضوع والخشوع والسجود لله لن يعطيك فقط
السيادة على الأجناس الأخرى التي تعطيك خير الدنيا، ولكن وضع جبهتك ووجهك على
الأرض يعطيك البركة في العمل ويعطيك خير الآخرة أيضاً. والعاقل هو من يعرف أنه أخذ
السيادة على الأجناس فيتقن العبودية لله، فيأخذ خيري الدنيا والآخرة حيث لا يفوته
فيها النعيم ولا يفوت هو النعيم، أما في الدنيا فأنت تقبل عليها باستخلاف وتعلم
أنك قد يفوتك النعيم، أو تفوت أنت النعيم، وحين تتذكر الله وتكون خاضعاً لله فأنت
تنال البركة في حركة الاستخلاف.
﴿وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ...
﴾ [الأعراف: ٢٩]
والمسجد مكان السجود، وقال الرسول صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونُصرت بالرعب
وأحلت لي الغنائم وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً، وأرسلت إلى الخلق كافة وختم بي
النبيون».
إذن فكل موضع في الأرض مسجد؛ فإن دخلت معبداً لتصلي
فهذا مسجد. والأرض كلها مسجد لك. يصح أن تسجد وتصلي فيها. وتزاول فيها عملك أيضا،
ففي المصنع تزاول صنعتك فيه، وحين يأتي وقت الصلاة تصلي، وكذلك الحقل تصلي فيه،
لكن المسجد الاصطلاحي هو المكان الذي حُبس على المسجدية وقصر عليها، ولا يزاول فيه
شيء آخر. فإن أخذت المسجد على أن الأرض مسجد كلها تكن ﴿وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ﴾
في جميع أنحاء الأرض. وإن أخذتها على المسجد، فالمقصود إقامة الصلاة في المكان
المخصوص، وله متجه وهو الكعبة. وكذلك يكون اتجاهك وأنت تصلي في أي مكان. والمساجد
نسميها بيوت الله ولكن باختيار خلق الله، فبعضنا يبني مسجداً هنا أو هناك. ويتجهون
إلى بيت باختيار الله وهو الكعبة. ولذلك كانت كعبة ومتوجهاً لجميع بيوت الله.
4108
وقصارى الأمر أن نجعل قبلة المسجد متجهة إلى الكعبة
وأن نقيم الوجه عليها، أي على الوجه الذي تستقيم فيه العبادة. وهو أن تتجهوا وأنتم
في صلاتكم إلى الكعبة فهي بيت الله باختيار الله.
وساعة ما تصادفك الصلاة صل في أي مسجد، أو
﴿أَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ يقصد بها التوجه للصلاة في المسجد،
وهنا اختلف العلماء، هل أداء الصلاة وإقامتها في المسجد ندباً أو حتماً؟.
والأكثرية منهم قالوا ندباً، والأقلية قالوا حتماً. ونقول: الحتمية لا دليل عليها.
من قال بحتمية الصلاة في المسجد استدل بقوله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «والذي نفسِ بيده لقد هممت أن آمر بحطب فيحتطب ثم
آمر بالصلاة فيؤذن لها ثم آمر رجلا فيؤم الناس ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم
بيوتهم».
ونقول: هل فعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ ذلك أو لم يفعل؟ لم يفعل رسول الله ذلك، إنما أراد بالأمر التغليظ
ليشجعنا على الصلاة في المساجد عند أي أذان للصلاة.
ويقول الحق سبحانه: ﴿وادعوه مُخْلِصِينَ لَهُ
الدين... ﴾ [الأعراف: ٢٩]
والدعاء: طلب من عاجز يتجه به لقادر في فعل يحبه
الداعي. وحين تدعو ربك ادعه مخلصاً له الدين بحيث لا يكون في بالك الأسباب؛ لأن
الأسباب إن كانت في بالك فأنت لم تخلص الدين، لأن معنى الإِخلاص هو تصفية أي شيء
من الشوائب التي فيه، والشوائب في العقائد وفي الأعمال تفسد الإِتقان والإِخلاص،
وإياكم أن تفهموا أن أحداً لا تأتي له هذه المسألة، فرسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول:
4109
«أنّي لَيُغَانُ على قلبي وإني
لأستغفر الله كل يوم مائة مرة».
إذن فالإِخلاص عملية قلبية، وأنت حين تدعوا الله
ادعه دائماً عن اضطرار، ومعنى اضطرار. أن ينقطع رجاؤك وأملك بالأسباب كلها. فذهبت
للمسبب، وما دمت مضطراً سيجيب ربنا دعوتك؛ لأنك استنفدت الأسباب، وبعض الناس يدعون
الله عن ترف، فالإِنسان قد يملك طعام يومه ويقول: ارزقني، ويكون له سكن طيب ويقول:
أريد بيتاً أملكه. إذن فبعضنا يدعو بأشياء لله فيها أسباب، فيجب أن نأخذ بها،
وغالبية دعائنا عن غير اضطرار. وأنا أتحدى أن يكون إنسان قد انتهى به أمر إلى
الاضطرار ولا يجيبه الله.
ويذيل الحق الآية الكريمة بقوله: ﴿... كَمَا بَدَأَكُمْ
تَعُودُونَ﴾ [الأعراف: ٢٩]
والله سبحانه يخاطب الإِنسان، ويحننه، مذكراً إياه ب
«افعل كذا» و «لا تفعل كذا». وسبحانه قادر أن يخلقه مرغماً على أن يفعل، لكنه - جل
وعلا - شاء أن يجعل الإِنسان سيدا وجعله مختاراً، وقهر الأجناس كلها أن تكون مسخرة
وفاعلة لما يريد، وأثبت لنفسه - سبحانه - صفة القدرة، ولا شيء يخرج عن قدرته؛ فأنت
أيها العبد تكون قادراً على أن تعصي ولكنك تطيع، وهذه هي عظمة الإِيمان إنّها تثبت
صفة المحبوبية لله، فإذا ما غُر الإِنسان بالأسباب وبخدمة الكون كله، وبما فيه من
عافية، وبما فيه من قوة، وبما فيه من مال، تجد الحق يلفته: لاحظ أنك لن تنفلت مني:
أنا أعطيت لك الاختيار في الدنيا، لكنك ترجع لي في الآخرة ولن تكون هناك أسباب،
ولن تجد إلا المسبب، ولذلك اقرأ: ﴿... لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار﴾
[غافر: ١٦]
4110
كأن المُلْكَ - قبل ذلك - أي في الدنيا - كان للبشر
فيه شيء لمباشرتهم الأسباب هذا يملك، وذلك يملك، وآخر يوظف، لكن في الآخرة لا
مالك، ولا مَلِكٌ إلا الله، فإياكم أن تغتروا بالأسباب، وأنها دانت لكم، وأنكم
استطعتم أن تتحكموا فيها؛ لأن مرجعكم إلى الله.
ويقول الحق بعد ذلك: ﴿فَرِيقاً هدى وَفَرِيقاً...
﴾
4111
ﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈ ﰝ
اذكروا أننا قلنا من قبل: إن الله هدى الكل.. بمعنى
أنه قد بلَّغهم بمنهجه عبر موكب الرسل، وحين يقول سبحانه: ﴿فَرِيقاً هدى
وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضلالة﴾ فالمقصود هنا ليس هداية الدلالة، لكن دلالة
المعونة. وقد فرقنا بين هداية الدلالة وهداية المعونة.
وقوله الحق ﴿فَرِيقاً هدى﴾ أي هداية المعونة؛ لأن
هذا الفريق أقبل على الله بإِيمان فخفف الله عليه مؤونة الطاعة، وبغّضه في
المعصية، وأعانه على مهمته. أما الذي تأبّى على الله، ولم يستجب لهداية الدلالة
أيعينه الله؟ لا. إنه يتركه في غيِّه ويخلي بينه وبين الضلالة، ولو أراده مهديًّا
لما استطاع أحد أن يغير من ذلك. وسبحانه منزه عن التجني على أحد من خلقه، ولكن
الذين حق عليهم الضلالة حصل لهم ذلك بسبب ما فعلوا. ﴿... إِنَّهُمُ اتخذوا
الشياطين أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الله وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ﴾
[الأعراف: ٣٠]
إن من يرتكب المعصية ويعترف بمعصيته فهذه تكون
معصية، أمّا من يقول إنها
4111
هداية فهذا تبجح وكفر؛ لأنه يرد الحكم على الله.
وخير للذين يرتكبون المعاصي أن يقولوا: حكم الله صحيح ولكننا لم نقدر على أنفسنا،
أما أن يرد العاصي حكم الله ويقول: إنه الهداية، فهذا أمره عسير؛ لأنه ينتقل من
مرتبة عاصٍ إلى مرتبة كافر والعياذ بالله. ﴿... وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم
مُّهْتَدُونَ﴾ [الأعراف: ٣٠]
لأنهم يفعلون ما حرم الله، وليتهم فعلوه على أنه
محرّم، وأنهم لم يقدروا على أنفسهم، ولكنهم فعلوه وظنوا أن الهداية في الفعل. وهذا
الأمر يشيع في معاصٍ كثيرة مثل الربا، فنجد من يقول: إنه حلال، ونقول: قل هو حرام
ولكن لم أقدر على نفسي، فتدخل في زمرة المعصية، ولا تدخل في زمرة الكفر والعياذ
بالله، ويمكنك أن تستغفر فيغفر لك ربنا، ويتوب عليك، ولكن أن ترد الحكم على الله وتقول
إنه حلال!! فهذا هو الخطر؛ لأنك تبتعد وتخرج عن دائرة المعصية وتتردى وتقع في
الكفر، اربأ بنفسك عن أن تكون كذلك واعلم أن كل ابن آدم خطاء، وما شرع الله التوبة
لعباده إلا لأنه قدَّر أن عبيده يخطئون ويصيبون، ومن رحمته أنه شرع التوبة، ومن
رحمته كذلك أنه يقبل هذه التوبة، فلماذا تخرج من حيز يمكن أن تخرج منه إلى حيز
يضيق عليك لا تستطيع أن تخرج منه؟.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: ﴿يابنيءَادَمَ خُذُواْ
زِينَتَكُمْ... ﴾
4112
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡ ﰞ
والزينة إذا سمعتها تنصرف إلى تجميل فوق قوام الشيء،
وقوله سبحانه وتعالى: ﴿خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ [الأعراف: ٣١]
4112
هذا يعني أن يذهب المسلم إلى المسجد بأفخر ما عنده
من ملابس، وكذلك يمكن أن يكون المقصود ب ﴿خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ
مَسْجِدٍ﴾ هو رد على حالة خاصة وهو أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة، وأن المراد بالزينة
هنا هو ستر العورة. أو المراد بالزينة ما فوق ضروريات الستر، أو إذا كان المراد
بها اللباس الطيب الجميل النظيف، فنحن نعلم أن المسجد هو مكان اجتماع عباد الله،
وهم متنوعون في مهمات حياتهم، وكل مهمة في الحياة لها زيها ولها هندامها؛ فالذي
يجلس على مكتب لمقابلة الناس له ملابس، ومن يعمل في «الحِدَادَة» له زي خاص مناسب
للعمل، ولكن إذا ذهبتم إلى المسجد لتجتمعوا جميعاً في لقاء الله أيأتي كل واحد
بلباس مهنته ليدخل المسجد؟ لا، فليجعل للمسجد لباساً لا يُضَايق غيره، فإن كانت
ملابس العمل في مصنع أو غير ذلك لا تليق، فاجعل للمسجد ملابس نظيفة حتى لا يُؤذَي
أحد بالوجود بجانبك؛ لأننا نذهب إلى المسجد لعمل مشترك يحكم الجميع وهو لقاء الله
في بيت الله، فلابد أن تحتفي بهذا اللقاء. ﴿... وكُلُواْ واشربوا وَلاَ تسرفوا
إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين﴾ [الأعراف: ٣١]
والمأكل والمشرب من الأمور المباحة لأن فيها مقومات
الحياة، وكل واشرب على قدر مقومات الحياة ولا تسرف، فقد أحل الله لك الأكثر وحرّم
عليك الأقل، فلا تتجاوز الأكثر الذي أُحلِّ لك إلى ما حرم الله؛ لأن هذا إسراف على
النفس، بدليل أنه لو لم تجد إلا الميتة، فهي حلال لك بشرط ألا تُسرف. ولا يصح أن
تنقل الأشياء من تحليل إلى تحريم؛ لأن الله جعل لك في الحلال ما يغنيك عن الحرام،
فإذا لم يوجد ما يغنيك، فالحق يحل لك أن تأخذ على قدر ما يحفظ عليك حياتك،
والمسرفون هم المتجاوزون الحدود. ولا سرف في حل، إنما السرف يكون في الشيء المحرم،
ولذلك جاء في الأثر:
«لو أنفقت مثل أحد ذهباً في حِلِّ ما
اعتبرت مسرفاً، ولو أنفقت درهماً واحداً في محرم لاعتبرت مسرفاً». «ولذلك يطلب منك
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن تعطي كل نعمة حقها
4113
بشرط ألا يؤدي بك ذلك إلى البطر، وحينما ذهب إليه
سيدنا عثمان بن مظعون، وقد أراد أن يترهب، ويتنسك، ويسيح في الكون، وقال لرسول
الله: يا رسول الله، إنني أردت أن اختصي؛ أي يقطع خصيتيه؛ كي لا تبقى له غريزة
جنسية، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: يا عثمان خصاء أمتي الصوم»
لذلك قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في شأن
من لم يستطع الزواج: «» يا معشر الشباب من استطاع منك الباءة فليتزوج فإنه أغض
للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء «.
» وقد روي أن رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذكر الناس وخوفهم فاجتمع عشرة من الصحابة وهم: أبو
بكر وعمر وعلي وابن مسعود وأبو ذر وسالم مولى أبي حذيفة والمقداد وسليمان وعبد
الله بن عمرو بن العاص ومعقل بن مقرن في بيت عثمان بن مظعون فاتفقوا على أن يصوموا
النهار ويقوموا الليل ولا يناموا على الفراش ولا يأكلوا اللحم ولا يقربوا النساء
ويجبّوا مذاكيرهم «. فكان التوجيه النبوي أن حمد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ ربه وأثنى عليه وقال:» ما بال أقوام قالوا كذا وكذا ولكني أصلي وأنام
وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني «.
ويتابع الحق سبحانه بعد ذلك: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ
زِينَةَ الله... ﴾
4114
ﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾ ﰟ
وما دام أخرجها لعباده فهو قد أرادها لهم، وما ينفع
منها للإناث جعلتها السنة
4114
للإِناث، وما يصح منها للذكور أحلتها السنّة لهم،
وكذلك الطيب من الرزق حلال للمؤمنين والمؤمنات. ولنلحظ دقة الأسلوب هنا في قوله
تعالى: ﴿قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا... ﴾ [الأعراف: ٣٢]
ثم يتابع سبحانه: ﴿خَالِصَةً يَوْمَ القيامة... ﴾
[الأعراف: ٣٢]
فكأننا أمام حالتين اثنتين: حالة في الدنيا، وأخرى
في يوم القيامة، معنى ذلك أن الزينة في الحياة الدنيا غير خالصة؛ لأن الكفار
يشاركونهم فيها، فهي من عطاء الربوبية، وعطاء الربوبية للمؤمن وللكافر، وربما كان
الكافر أكثر حظًّا في الدنيا من المؤمن، ولكن في الآخرة تكون الزينة خالصة
للمؤمنين لا يشاركهم فيها الكافرون.
وكذلك فإن الحق سبحانه وتعالى يعطي اليقظة
الإِيمانية في المؤمن بوجود الأغيار فيه، ومعنى وجود الأغيار أنه قد يتعرض
الإِنسان لتقلبات بين الصحة والمرض والغنى والفقر والقوة والضعف. وهكذا يكون
الإٍنسان في الدنيا؛ فهي دار الأغيار، ويصيب الإِنسان فيها أشياء قد يكرهها؛ لذلك
فالدنيا ليست خالصة النعيم لما فيها من أغيار تأتيك فتسوؤك. إنها تسوؤك عند غيبة شحنة
الإِيمان منك؛ لأنك إن استصحبت شحنة الإِيمان عند كل حدث أجراه الله عليك
لَلَفَتَكَ الله إلى حكمته. ﴿قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا
خَالِصَةً يَوْمَ القيامة... ﴾ [الأعراف: ٣٢]
ويمكن أن نقرأ كلمة «خالصة» منصوبة على أنها حال،
ويمكن أن نقرأها في قراءة أخرى مرفوعة على أنها خبر بعد خبر، والمعنى: أنها غير
خالصة للمؤمنين في الدنيا لمشاركة الكفار لهم فيها، وغير خالصة أيضاً من شوائب
الأغيار ولكنها
4115
وفي الآخرة خالصة للمؤمنين فلا يشاركهم الكفار ولا
تأتي لهم فيها الأغيار.
ويذيل الحق الآية بقوله: ﴿... كَذَلِكَ نُفَصِّلُ
الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: ٣٢]
معنى ﴿نُفَصِّلُ الآيات﴾ أي لا نأتي بالآيات مجملة
بل نفصل الآيات لكل مؤمن، فلا نترك خللاً، ونأتي فيها بكل ما تتطلبه أقضية الحياة،
بتفصيل يُفهمنا قضايانا فهماً لا لبس فيه.
ويقول الحق بعد ذلك: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ
الفواحش... ﴾
4116
ﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜ ﰠ
والحق سبحانه - قد بدأ الآية ب «إنما» التي هي
للحصر: أي ما حرم ربي إلا هذه الأشياء، الفواحش ما ظهر منها وما بطن، والإِثم،
والبغي بغير الحق، والشرك بالله، والقول على الله ما لا نعلم، فلا تدخلوا أشياء
أخرى وتجعلوها حراماً، لأنها لا تدخل في هذه، وقول الله في الآية السابقة: ﴿قُلْ
مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله﴾ هوعلى صيغة استفهام لكي يجيبوا هم. ولن يجدوا سبباً
لتحريم زينة الله لأن الحق قد وضح وبينّ ما حرم فقال: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ
الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ والإثم والبغي بِغَيْرِ الحق وَأَن
تُشْرِكُواْ بالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى
الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: ٣٣]
4116
ونتأمل الخمسة المحرمات التي جاءت بالآية؛ فحين ننظر
إلى مقومات حياة الخلافة في الأرض ليبقى الإِنسان خليفة فيها نرى أنه لابد من
صيانة أشياء ضرورية لسلامة هذه الخلافة وأداء مهمتها، وأول شيء أن يسلم للمجتمع
طهر أنسابه. وسلامة طهر الأنساب أي الإِنجاب والأنسال ضرورية للمجتمع؛ لأن
الإِنسان حين يثق أن ابنه هذا منه فهو يحرص عليه لأنه منسوب إليه، ويرعاه ويربيه.
أما إذا تشكك في هذه المسألة فإنه يهمله ويلفظه، كذلك يهمله المجتمع، ولا أحد
يربيه ولا يلتفت إليه ولا يعنى به.
إذن فسلامة الأنساب أمر مهم ليكون المجتمع مجتمعاً
سليماً، بحيث لا يوجد فرد من الأفراد إلا وهو محسوب على أبيه، بحيث يقوم له بكل
تبعات حياته، ولذلك يجب أن تعلموا أن الأطفال المشردين مع وجود آبائهم حدث من أن
شكاً طرأ على الأب في أن هذا ليس ابنه. ولذلك ماتت فيه غريزة الحنان عليه، فلا
يبالي إن رآه أم لم يره، ولا يبالي أهو في البيت أم شرد، لا يبالي أكل أم جاع، لا
يبالي تعرى أم لا.
إذن فطهارة الأنساب ضمان لسلامة المجتمع؛ لأن
المجتمع سيكون بين مربٍّ يقوم على شأن وصغير مرَّبى، المربي قادر على أن يعمل،
والمربَّى صغير يحتاج إلى التربية. ولذلك حرم الله الفواحش. والفحش - كما قلنا -
ما زاد قبحه، وانتهوا على أنه هو الزنا؛ لأن أثره لا يتوقف فقط عند الذنب
والاستمتاع. بل يتعدى إلى الأنسال. وما تعدى إلى الأنسال فهو تعد إلى المجتمع،
ويصير مجتمعاً مهملاً لا راعي له.
والإِثم: أهو كل كبيرة أو ما يقام على فاعله حد؟.
لقد انتهى العلماء على أن الإِثم هو الخمر والميسر؛ لأن الله قال بالنص:
﴿وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا... ﴾ [البقرة: ٢١٩]
وأراد الحق بذلك أن يضمن مقوم تنظيم حركة الحياة في
الإِنسان وهو العقل وأن
4117
الخمر تغيب العقل، والإِنسان مطالب بأن يحفظ عقله
ليواجه به أمور الحياة مواجهة تبقى الصالح على صلاحه أو تزيده صلاحاً ولا تتعدى
على الإِنسان فإذا ما ستر العقل بالخمر فسد واختل، ويختل بذلك التخطيط لحركة
الحياة.
والذين يأتون ويشربون ويقولون: نريد أن ننسى همومنا
نقول لهم: ليس مراد الشارع أن ينسى كل واحد ما أهمه؛ لأنه إن نسي كل واحد ما أهمه
فلن يحتاط أحد ولن يقوم على تقدير الأمور التي تضمن السلامة.
إن الشارع يطلب منك أن تواجه الهموم التي تعاني منها
مضاعف لتزيلها. أما أن تستر العقل فأنت قد هربت من المشكلة، إذن يجب عليك أن تواجه
مشكلات الحياة بعقلك وبتفكيرك. فإن كانت المشكلة، قد نشأت من أنك أهملت في واجب
سببي أي له أسباب وقد قصرت في الأخذ بها فأنت الملوم. وإن كانت المشكلة جاءتك من
أمر ليس في قدرتك، أي هبطت عليك قضاء وقدراً؛ فاعلم أن مجريها عليك له فيها حكمة.
وقد يكون البلاء ليحيمك الله من عيون الناس فيحسدوك
عليها، لأن كل ذي نعمة محسود، وحتى لا تتم النعمة عليك؛ لأن تمام النعمة على الإنسان
يؤذن بزوالها، وأنت ابن الأغيار وفي دنيا الأغيار، وإن تمت لك فقد تتغير النعمة
بالنقصان.
إذن فالتفكير في ملافاة الأسباب الضارة وتجنبها يأتي
بالعقل الكامل، والتفكير في الأشياء التي ليس لها سبب يأتي من الإيمان، والإيمان
يطلب منك أن ترد كل شيء إلى حكمة الحكيم. إذن فأنت تحتاج إلى العقل فلا تستره بشرب
الخمر؛ لأن العقل يدير حركة الحياة.
البغي نعرف انه مجاوزة الحد ظلماً أو أكبر، أو
بخلاً. والظلم أن تأخذ حق غيرك وتحرمه من ثمرة عمله فيزهد في العمل؛ لذلك يحرم
الحق أن يبغي أحد على أحد. لا في عرضه، ولا في نفسه، ولا في ماله. ويجب أن نصون
العرض من الفواحش؛ لأن كل فاحشة قد تأتي بأولاد من حرام. وإن لم تأت فهي تهدر
العرض، والمطلوب صيانته، كذلك لا يبغى أحد على محارم أحد، وكذلك لا يبغى أحد على
حياة إنسان بأن يهدمها بالقتل.
4118
ويصمون الحق المال فيمنع عنه البغي فلا يأخذ أحد
ثمرة عمل آخر وكفاحه عدواناً وظلماً، ومظاهر البغي كثيرة. ومن البغي أن تأخذ سلطة
قسراً بغير حق ولكن هناك من يأخذ سلطة قسراً وقهراً بحق، فإن كنت - على سبيل
المثال - تركب سفينة، ثم قامت الرياح والزوابع، وأنت أمهر في قيادتها أتترك الربان
يقودها وربما غرفت بمن فيها أم تضرب على يده وتمسك بالدفة وتديرها لتنقذها ومن
فيها، إنك في هذه الحالة تكون قد أخذت القيادة بحق صيانة أرواح الناس، وهذا بغي
بحق، وهو يختلف عن البغي بغير الحق. وحتى تفرق بين البغي البغي بحق والبغي بغير
الحق نقول. إن هذا يظهر ويتضح عندما نأخذ مال السفيه منه للحفاظ عليه وصيانته
وتثميره له، فنكون قد أخذنا من صاحبه رعاية لهذا الحق، فهو وإن كان في ظاهره بغيا
على صاحب الحق إلا أنه كان لصالحه وللصالح العام فهذا بغي بحق أو أنه سمي بغيا؛
لأنه جاء على ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبة ذلك الغير، ونقرأ أيضاً قول الله:
﴿وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا... ﴾
[الشورى: ٤٠]
فهل جزاء السيئة يكون سيئة؟ لا. وإنما هي سيئة
بالنسبة لمن وقعت عليه؛ لأنه لما عمل سيئة واختلس مالا - مثلا - وضربت على يده
وأخذت منه المال فقد أتعبته ولذلك فالحق يقول: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ
بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ﴾
[النحل: ١٢٦]
ومن بغى بغير حق علينا أن نذكره بأن هناك من هو أقوى
منه، أن يتوقع أن يناله بغي ممن هو أكثر قدرة منه.
وينبهنا الحق إلى العمل الذي لا غفران له: ﴿وَأَن
تُشْرِكُواْ بالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً﴾.
ومحال أن ينزل الحق الذي نعبده شريكاً له ويؤيده
بالبرهان والسلطان والحجة
4119
على أنه شريك له - تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيراً؛
لأن من خصائص الإِيمان أنه سبحانه ينفي هذا الشرك بأدلته العقلية وأدلته النقلية.
وإذا كان الحق قد قال لنا في هذه الآية: ﴿قُلْ
إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ والإثم والبغي
بِغَيْرِ الحق وَأَن تُشْرِكُواْ بالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن
تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: ٣٣]
فبعض من الآيات الأخرى جمعت هذه الأشياء، في إطار
إيجازي ومع المقابل أيضاً، يقول الحق: ﴿إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان
وَإِيتَآءِ ذِي القربى وينهى عَنِ الفحشاء والمنكر والبغي... ﴾ [النحل: ٩٠]
لقد جاء بالفحشاء في هذه الآية ليؤكد طهارة الأنسال،
وجاء أيضاً بتحريم المنكر والبغي، وزاد في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها
الإِثم فقط. وكأن الإثم في آية الأمر بالعدل والإِحسان والنهي عن الفحشاء والمنكر
والبغي، مطمور في «المنكر»، والمنكر ليس محرماً بالشرع فقط، بل هو ما ينكره الطبع
السليم؛ وأيضاً فصاحب الطبع غير السليم يحكم أنه منكر إذا كانت المعاصي تعود عليه
بالضرر، هنا يقول: أعوذ بالله منها. وإن كان هو يوقعها على الغير فهو يعتقد أنها
غير منكر، وعلى سبيل المثال نجد رجلاً يبيح لنفسه أن يفتح أعينه على عورات الناس
ويتلذذ بهذه المسألة. لكنه ساعة يرى إنساناً آخر يفتح عينيه على عورته أو على
ابنته مثلا إنّه يرى في ذلك أبشع المنكرات؛ لذلك لابد أن تجعل للمنكر حدًّا يشملك
ويشمل غيرك ولا تنظر إلى الأمر الذي تكلف به أنت وحدك، وإنما انظر إلى الأمر
المكلف به الآخرون.. وإياك أن تقول: إنه حدد بصري من أن يتمتع بجسم يسير أمامي،
إنه - سبحانه - كما حرم نظرك إلى ذلك، حرم أنظار الناس جميعاً أن ينظروا إلى
محارمك؛ وفي هذا صيانة لك.
4120
وبعد أن حلل هذه الطيبات والزينة، وحرم الفواحش
والمنكر والبغي والإِثم يقول سبحانه: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَآءَ...
﴾
4121
ﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩ ﰡ
نحن هنا أمام نص قرآني تثبته قضايا الوجود الواقعي؛
فالذين سفكوا، وظلموا، وانتهكوا الأعراض، وأخذوا الأموال. لم يدم لهم ذلك، بل أمد
الله لهم في طغيانهم، وأخذهم به أخذ عزيز مقتدر. ولو أراد خصومهم الانتقام منهم
لما وصلوا إلى أدنى درجات انتقام السماء. ويجري الحق هذا الانتقام من الطغاة
لصيانة سلامة المجتمع. فإن رأيت فساداً أو طغياناً إياك أن تيأس؛ لأن الحق سبحانه
قد أوضح أن لكل أمة أجلاً، بداية ونهاية، ففي أعمارنا القصيرة رأينا أكثر من أمة
جاء أجلها. إذن فكل طاغية يجب أن يتمثل هذه الآية: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا
جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ﴾ [الأعراف:
٣٤]
والأجل لكل أمة معروف عند الله؛ لأن الباطل والظلم
إن لم يعض الناس عضة تجعلهم يصرخون فهم لا يستشرفون إلى الحق ولا يتطلعون إليه،
والألم وسيلة العافية لأنه يؤكد لك أن وضعك غير طبيعي، وعلى ذلك فالمسائل التي
تحدث في الكون وهذه الأمم التي تظلم. وتضطهد. ولها جبروت وطغيان إنما تفعل ذلك إلى
أجل معلوم. فإياك أن تيأس، ولكن عليك أن تستشرف إلى الحق. وإلى جناب الله فتلوذ به
وحده، ولذلك نجد أكثر الناس الذين حدثت لهم هذه الأحداث لم يجدوا إلا واحة
الإِيمان بالله؛ ففروا إلى بيته حجاجاً وإلى مساجده عمارًّا وإلى قراءة قرآنه
ذكراً. وننظر إلى هذه الأمور ونقول: إن الطاغية الفاجر مهما فعل فلابد أن يسخره
الله لخدمة دينه، وهناك أناس لولا أن الدهر عضهم وأخنى عليهم كأن سلط عليهم ظالماً
لما فروا إلى الله بحثاً عن نجاة، ولما التفتوا لربنا عبادة.
4121
إن في واقع حياتنا يعرف كل منا أناساً، كان الواحد
منهم لا يعبد ربه فلا يصلي ولا يصوم ولا يذكر ربه، ثم جاءت له عضة من ظالم فيلجأ
الإِنسان المعضوض إلى الله عائذاً به ملتجئا إليه، ولذلك نقول للظالم: والله لوعرفت
ماذا قدمت أنت لدين الله، ولم تأخذ عليه ثواباً لندمت، فأنت قد قدمت لدين الله
عصبة ممن كانوا من غير المتدينين به. ولو أنك تعلم ما يأتي به طغيانك وظلمك
وجبروتك من نصر لدين الله لما صنعته أنت، إنّ لكل أمة أجلاً، فإن كنت ظالماً وعلى
رأس جماعة ظالمة فلذلك نهاية.
وانظر إلى التاريخ تجد بعض الدول أخذت في عنفوانها
وشدتها سيادة على الشعوب، ثم بعد فترة من الزمن تحل بها الخيبة وتأتي السيطرة
عليها من الضعاف؛ لأن هذا هو الأجل. إن الحق يعمي بصائرهم في تصرف، يظنون أنه يضمن
لهم التفوق فإذا به يجعل الضعيف يغلبهم ويسيطر عليهم. وإذا جاء الأجل فلا أحد
يستطيع تأخيره؛ لأن التوقيت في يد قيوم الكون، وهم أيضاً لا يستقدمون هذا الأجل،
ونلحظ هنا وجود كلمة «ساعة»، والساعة لها اصطلاح عصري الآن من حيث إنها معيار زمني
لضبط المواقيت، ونعلم أن اليوم مقسم إلى أربع وعشرين ساعة، والأقل من الساعة
الدقيقة، والأقل من الدقيقة الثانية، والأكبر من الساعة هو اليوم. ومن يدري فقد
يخترع البشر آلاتٍ لضبط الجزء من الثانية.
وكذلك تطلق الساعة على قيام القيامة.
ويقول الحق بعد ذلك: ﴿يابنيءَادَمَ إِمَّا
يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ... ﴾
4122
ﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝ ﰢ
هنا ينادي الحق أبناء آدم، بعد أن ذكرهم أنه أحل لهم
الطيبات والزينة وحرم
4122
عليهم المسائل الخمسة من الفاحشة والمنكر والبغي
والإِثم والشرك، ووضع لهم نظاماً يضمن سلامة المجتمع، وطمأنهم بأنه منتقم من أي
أمة ظالمة بأن جعل للظلم نهاية وأجلاً. فعليكم يا بني آدم أن تأخذوا أمور حياتكم
في إطار هذه المقدمات. ﴿يابنيءَادَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ
يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي... ﴾ [الأعراف: ٣٥]
عليكم أن تستقبلوا رسل الله استقبال الملهوف
المستشرق المتطلع إلى ما يحميه وإلى ما ينفعه؛ لأن الرسول هو من يعلن لكل واحد
منكم ما أحله الله من طيبات الحياة وملاذها، ويبين لكم ما حرم الله ليحيا المجتمع
سليماً.
كان المظنون أن ساعة يأتي الرسول نجد المجتمع يحرص
على ملازمته وعلى تلقي البلاغ منه، لا أن يظل الرسول يدعو باللين بينما المجتمع
يتأبى عليه. لكن من رحمة الله أن يتأبى المجتمع ويلح الرسول مبيناً آيات الله
وبيناته كي يأخذ كل إنسان ما يساعده على أمر حياته ويهتدي إلى الصراط المستقيم،
وأنت إذا ما أصبت في عافيتك تلح على الطبيب وتبحث عنه، فكان مقتضى العقل أنه إذا
جاء رسول ليبلغنا منهج الله في إدارة حركة الحياة أن نتشوق إليه ونتطلع، لا أن
نعاديه، وعادة ما يسعد بالرسول أهل الفطرة السليمة بمجرد أن يقول الرسول: أنه رسول
ومعه آية صدقه. ويقيس أهل الفطرة السليمة قول الرسول بماضيه معهم، فيعلمون أنه
مخلص لم يرتكب الإثم. وهذه فائدة قوله الحق: ﴿لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ
أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمؤمنين رَءُوفٌ
رَّحِيمٌ﴾ [التوبة: ١٢٨]
فلم يأت لكم إنسان لا تعرفونه بل لكم معه تاريخ واضح
وجلي، لذلك نجد الذين آمنوا برسول الله أول الأمر لم ينتظروا إلى أن يتلو عليهم
القرآن، لكنهم آمنوا به بسوابق معرفتهم له؛ لأنهم عايشوه، وعرفوا كل تفاصيل
أخلاقه. ومثال ذلك: عندما أخبر محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سيدتنا
خديجة - رضوان الله عليها - بنبأ
4123
رسالته وأسرّ لها بخوفه من أن يكون ما نزل إليه هو
من أمور الجن أو مسها، أسرعت إلى ورقة بن نوفل؛ لأنه عنده علم بكتاب، وقبل ذلك
قالت لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنك لتصل الرحم وتحمل
الكَلَّ وتعين على نوائب الحق وتكسب المعدوم».
وكل هذه المقدمات تدل على أنك - يا رسول الله - في
حفظ الله ورعايته؛ لأنك كنت مستقيم السلوك قبل أن تُنَّبَّأ، وقبل أن توجد كرسول
من الله. وهل معقول أن مَن يترك الكذب على الناس يكذب على الله؟! وكذلك نجد سيدنا
أبا بكر الصديق بمجرد ما أن قال رسول الله: أنا رسول، قال له: صدقت.
وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على صدق الفطرة، وهذه
هي فائدة ﴿رسول من أنفسكم﴾ أو من جنسكم البشري حتى نجد فيه الأسوة الحسنة. ولو جاء
لنا رسول من الملائكة وقال لنا: هذا هو المنهج ولكم أسوة بي، كنا سنرد عليه الرد
المقنع السهل اليسير: وهل نقدر أن نفعل مثلك وأنت ملَكٌ مفطور على الخير؟. لكن حين
يأتينا رسول من جنسنا البشري، وهو صالح أن يصدر منه الخير، وصالح أن يصدر منه الشر
فهو الأسوة الموجودة، ولذلك كان من غباء الكافرين أن قالوا ما جاء به القرآن على
ألسنتهم: ﴿وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَآءَهُمُ الهدى إِلاَّ أَن قالوا
أَبَعَثَ الله بَشَراً رَّسُولاً﴾ [الإسراء: ٩٤]
إنه الغباء وقصر النظر والغضب؛ لأن الله بعث محمداً
وهو من البشر، فهل كانوا يريدون مَلَكاً؟ ولو كان ملكاً فكيف تكون به الأسوة وطبعه
مختلف عن طبائع البشر؟. ولذلك يرد الحق الرد المنطقي: ﴿قُل لَوْ كَانَ فِي الأرض
ملائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السمآء مَلَكاً
رَّسُولاً﴾ [الإسراء: ٩٥]
4124
وذلك حتى تتحقق لنا الأسوة فيه؛ فسبحانه لم يقتحم
وجودكم التكليفي، ولم يُدخلكم في أمر يشتد ويشق عليكم لكنه جاء لكم بواحد منكم
تعرفون تاريخه. ولم يأت به من جنس آخر. ﴿يابنيءَادَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ
رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي... ﴾ [الأعراف: ٣٥]
وانظر قوله: ﴿يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي﴾، لقد
جاء بكلمة «يقصّون» لأن القصص مأخوذة من مادة «القاف» و «الصاد المضعَّفة» ؛ وهذا
مأخوذ من «قصّ الأثر»، وكان الرجل إذا ما سرقت جماله أو أغنامه يسير ليرى أثر
الأقدام. إذن ﴿يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي﴾ أي أنهم ملتزمون بما جاء لهم، لا
ينحرفون عنه كما لا تنحرفون أنتم عن قص الأثر حين تريدون المؤثِّر في الأثر. ﴿...
فَمَنِ اتقى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾
[الأعراف: ٣٥]
و «التقوى» هو أن تجعل بينك وبين شيء يضرك وقاية.
ولذلك يقول الحق: ﴿اتقوا النار﴾، لنرد عن أنفسنا بالعمل الصالح لهيب النار. وإذا
قيل: ﴿واتقوا الله﴾ أي اتقوا متعلقات صفات الجبروت من الله؛ لأنكم لن تستطيعوا
تحمل جبروت ربنا، وعليكم أن تلتزموا بفعل الأوامر وتلتزموا أيضاً بترك النواهي.
والأمر بالتقوى هنا يعني ألا ننكر ونجحد رسالات الرسل؛ لأنهم إنما جاءوا لإِنقاذ
البشر، فالمجتمع حين يمرض، عليه أن يسرع ويبادر إلى الطبيب القادم بمنهج الله
ليرعاه، وهو الرسول؛ لذلك لا يصح الجحود برسالة عليها دليل ومعجزة. ﴿فَمَنِ اتقى
وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾.
و «أصلح» تدل على أن هناك شيئاً غير صالح فجعله
صالحاً، أو حافظ على صلاح الصالح ورقَّى صلاحه إلى أعلى، مثل وجود بئر نشرب منه،
فإن كانت البئر تؤدي مهمتها لا نردمها، ولا نلقي فيها قاذورات، وبذلك نبقي الصالح
على صلاحه، ويمكن أن نزيد من صلاح البئر بأن نبني حول فوهتها سوراً، أو أن نقوم
بتركيب مضخة تمتص الماء من البئر لضخه إلى البيوت.
وبذلك نزيد الصالح
4125
صلاحاً، والآفة في الدنيا هم الذين يدعون الإِصلاح
بينما هم مفسدون، يقول الله فيهم: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بالأخسرين أَعْمَالاً
الذين ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحياة الدنيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ
يُحْسِنُونَ صُنْعاً﴾ [الكهف: ١٠٣ - ١٠٤]
إذن فحين تقدم على أي عمل لابد أن تعرف مقدمات هذا
العمل، وماذا ستعطيه تلك المقدمات، وماذا سوف تأخذ منه. وأبق الصالح في الكون على
صلاحه أو زده إصلاحاً، وهنا لا خوف عليك ولن تحزن على شيء فاتك ليتحقق قول الحق:
﴿لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ على مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ... ﴾
[الحديد: ٢٣]
وما المقابل لمن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون؛ أي
هؤلاء الذين أصلحوا واتقوا؟ المقابل هو ما يأتي في قوله الحق: ﴿والذين كَذَّبُواْ
بِآيَاتِنَا... ﴾
4126
ﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪ ﰣ
ولماذا يكون مصير المكذبين بالآيات والمستكبرين عنها
أن يكونوا أصحاب النار ويكونوا فيها خالدين؟ لأنهم وإن تيسرت لهم أسباب الحياة لم
يضعوا في حسابهم أن يكون لهم نصيب في الآخرة ولم يلتفتوا إلى الغاية، وغاب عنهم
الإِيمان بقول الحق: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ
وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ
4126
مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ}
[الشورى: ٢٠]
وهب أن الواحد منهم قد أخذ ما أخذ في الدنيا، فلماذا
نسي أنها موقوتة العمر؟ ولماذا لم يلتفت إلى الزمن في الآخرة؟. عليك أن تعلم أنك
في هذه الدنيا، خليفة في الأرض، ومادمنا جميعاً أبناء جنس واحد ومخلوقين فيها
والسيادة لنا على الأجناس فلابد أن تكون لنا غاية متحدة؛ لأن كل شيء اختلفنا فيه
لا يعتبر غاية، فالغاية الأخيرة هي لقاء الله؛ لأن النهاية المتساوية في الكون هي
الموت ليسلمنا لحياة ثانية، فالذي يستكبر عن آيات الله هو من دخل في صفقة خاسرة؛
لأن من يقارن هذه الدنيا بالحياة الأخرى سيجد أن زمن الإِنسان في الدنيا قليل،
وزمن الآخرة لا نهاية له. وعمر الإِنسان في الدنيا مظنون غير متيقن، والمتعة فيها
على قدر أسباب الفرد وإمكاناته، لكن الآخرة متيقنة، ونعيم المؤمن فيها على قدر
طلاقة قدرة الله. ﴿أولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [الأعراف: ٣٦]
وأصحاب النار. يعني أن يصاحب ويلازم المذنب النار
كما يصاحب ويلازم الإِنسان منا صاحبه؛ لأن النار على إلف بالعاصين، وهي التي
تتساءل: ﴿هَلْ مِن مَّزِيدٍ﴾ ؟.
ويقول الحق بعد ذلك: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى...
﴾
4127
ﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓ ﰤ
و ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ﴾ تأتي على صيغة السؤال الذي لن
تكون إجابته إلا الإِقرار. ولا أحد أظلم ممن افترى على الله الكذب؛ لأنه أولاً ظلم
نفسه، وظلم أمته، وأول ظلم النفس أن يرتضي حياة زائلة وأن يترك حياة أبدية، وأما
ظلمه للناس فلأنه سيأخذ أوزار ما يفعلون؛ لأنه قد افترى على الله كذباً. ﴿أَوْ
كَذَّبَ بِآيَاتِهِ﴾.
أي قوَّل الله ما لم يقله، أو كذَّب ما قاله الله،
وكلا الأمرين مساوٍ للآخر. والآية - كما نعلم - هي الأمر العجيب، والآيات أُطلقت
في القرآن على معانٍ متعددة؛ فالحق يقول: ﴿كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ... ﴾ [فصلت:
٣]
وكذلك أطلقت على المعجزات التي يرسلها الله تأييداً
لرسله. ﴿وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا
الأولون... ﴾ [الإسراء: ٥٩]
فالآيات هنا هي المعجزات أي الأمور العجيبة.
وحدثنا القرآن عن الآيات الكونية فقال سبحانه:
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ اليل والنهار والشمس والقمر... ﴾ [فصلت: ٣٧]
فالآية إذن هي الشيء العجيب وهي تشمل آيات القرآن؛
لأنك حين تنظر إلى نظم آيات القرآن، وإلى استيعابها إلى حقائق الوجود وإلى
استيفائها لقضايا الكون
4128
كله تقول لنفسك: هذا شيء عجيب؛ لأن الذي جاءت على
لسانه هذه الآيات نبي أمي، ما عرف عنه أنه زاول تعلماً، وما جربوا عليه أنه قال
شعراً، أو نثراً أو له رياضة في كلام، وبعد ذلك ما جرب حكم أمم، وما درس تاريخ
الأمم حتى يستنبط القوانين التي أعجزت الحضارات المعاصرة عن مجاراتها.
إن الأمة البدوية حينما ذهب بمنهجها إلى الفرس،
وكانت الفرس لها حضارة الشرق كلها، وعلى الرغم من ذلك أخذت الفرس قوانينها من هذه
الأمة البدوية، وكان كل نظام هذه الأمة المتبدية قبل مجيء الرسالة مع سيدنا رسول
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يتخلص في نظام القبيلة وكل قبيلة لها
رئيس، وبعد أن جاءت رسالته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جاء بنظام يجمع أمم
العالم كلها، ثم ينجح في أدراة الدنيا كلها، وهذه مسألة عجيبة، وكل آية من هذه
الآيات كانت معجزة وعجيبة.
وكذلك الآيات الكونية التي نجدها تتميز بالدقة
الهائلة؛ فالشمس والقمر بحسبان، وكل في فلك يسبحون، إنه نظام عجيب.
إذن فالعجائب في الآيات هي آيات القرآن، والمعجزات
والآيات الكونية. وكيف يكذبون إذن بالآيات؟. ألا ينظرون إلى الكون. وما فيه من دقة
صنع وهندسة بناء تكويني لا تضارب فيه؟ وهي آيات تنطق بدقة الخالق؛ فهو العالم،
القادر، الحكيم، الحسيب. وكذلك كيف يكذبون الرسول القادم بالمعجزات، ويقولون: إنه
ساحر، وحين تتلى عليهم آيات يكذبونها. إذن هم لم ينظروا في آيات الكون ليستنبطوا
منها عظمة الصانع وحكمته ودقته، ولم يلتفتوا إلى الإِيمان به قمة عقيدية، وكذلك
كذبوا بالآيات المعجزات التي جاء بها الرسل فلم يصدقوا الرسل وآخرها وقمتها آيات
القرآن العظيم.
وحينما عرض الحق سبحانه وتعالى هذه القضية، تساءل:
كيف تقولون. إنه سحر الناس فآمنوا به، فلماذا لم يسحركم أنت؟. وحينما قالوا:
﴿إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ... ﴾ [النحل: ١٠٣]
4129
قال الحق: ﴿... لِّسَانُ الذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ
أَعْجَمِيٌّ وهذا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ﴾ [النحل: ١٠٣]
وقالوا: ﴿وقالوا أَسَاطِيرُ الأولين اكتتبها فَهِيَ
تملى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً﴾ [الفرقان: ٥]
فيعلم الحق رسله أن يقول: ﴿... فَقَدْ لَبِثْتُ
فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ [يونس: ١٦]
وهنا يأمر الحق رسوله أن يذكرهم بأنه عاش بينهم
أربعين عاماً فهل عرف عنه أنه يقول أو يتكلم بشيء من هذا؟
فهل يترك الحق من كذبوا بالآيات؟ أنهم خلق الله،
والله استدعاهم إلى الوجود، لذلك يضمن لهم مقومات الحياة، وأمر أسباب الكون أن
تكون خدمة هؤلاء المكذبين الكافرين كما في خدمة الطائعين المؤمنين. ومن يحسن منهم
الأسباب يأخذ نتائجها، وإن أهمل المؤمنون الأخذ بالأسباب فلن يأخذوا نتائجها، وكل
هذا لأنه عطاء ربوبية ولأنه خلق فلابد أن يرزق، والنواميس الكونية تخدم الطائع
وتخدم العاصي؛ لأن ذلك من سنة الله ولن يجد أحد لسنة الله تبديلا.
إذن فكفرهم لن يمنع عنهم نصيبهم من الكتاب الذي
قَدَّر لهم، من الرزق والحياة، ما هو مسطر في الكتاب الذي أنزل عليهم؛ لذلك يقول
الحق: ﴿أولئك يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الكتاب... ﴾ [الأعراف: ٣٧]
4130
أو ينالهم، أي يصيبهم عذاب مما هو مبين في الكتاب
الذي أرسلناه ليوضح أن الطائع له الثواب، والعاصي له العقاب، فيقول الحق هنا: ﴿...
حتى إِذَا جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالوا أَيْنَ مَا كُنتُمْ
تَدْعُونَ مِن دُونِ الله قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ على أَنْفُسِهِمْ
أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ﴾ [الأعراف: ٣٧]
وساعة تسمع ﴿يَتَوَفَّوْنَهُمْ﴾ تفهم أن الحياة
تنتهي، وتنفصل الروح عن الجسد فهذا هو «التوفي»، فمرة ينسب إلى الحق الأعلى سبحانه
وتعالى، ومرة ينسب إلى المَلَك، ومرة يراد منه أتباع المَلَك أي جنوده يقول -
سبحانه -: ﴿حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الموت تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ
يُفَرِّطُونَ﴾، والأساليب الثلاثة ملتقية؛ لأن ملك الموت لم يأت بالموت من عنده،
بل أخذ التلقي من الله، فالأمر الأعلى من الله، وأمر التوسط للملك، وأمر التنفيذ
للرسل.
و «التوفي» على إطلاقه هو استيفاء الأجل، فإن كان
أجل الحياة فهو ترفية بالموت، وإن كان الأجل البرزخ وهو المدة التي بين القبر
والحساب. إلى أن يجيء ميعاد دخولهم النار فهذا هو توفي أجلهم الثاني؛ لأن كل إنسان
له أجلان: أجل ينهي هذه الحياة، والأجل الذي يأخذه في البرزخ إلى أن يجيء الحساب.
وهذا لا يمنع أن يقال: إن قيامة كل إنسان تأتي بموته؛ لأن للقيامة مراحل بدءا من
القبر ونهاية بالخلود في الجنة أو في النار.
وحين تسألهم الملائكة: ﴿... أَيْنَ مَا كُنتُمْ
تَدْعُونَ مِن دُونِ الله قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ على أَنْفُسِهِمْ
أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ﴾ [الأعراف: ٣٧]
هم إذن يعترفون أن من كانوا يدعونهم من دون الله قد
غابوا واختفوا ولا يظهر لهم أثر.
4131
﴿وقالوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض أَإِنَّا لَفِي
خَلْقٍ جَدِيدٍ... ﴾ [السجدة: ١٠]
وهم - إذن - يقرون غياب من كانوا يدعونهم من دون
الله، والمراد أنه لا وجود لهم، وهم بذلك قد شهدوا على أنفسهم بكفرهم. ولكن هذه
الشهادة لا تجدي لأن زمن التكليف قد انتهى، وهم الآن في دار قهر لكل ما يريده
الله؛ ففي دار التكليف كان الإِنسان حرًّا أن يفعل أو ألاّ يفعل، ولكن في الدار
الآخرة لا تنفع هذه الشهادة. وذلك لتبين عدالة الجزاء الذي يصيبهم، ولن يتأبوا على
الجزاء؛ لذلك يقول الحق: ﴿قَالَ ادخلوا في أُمَمٍ... ﴾
4132
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻ ﰥ
ويوضح لنا الحق أنه بأوامر «كن» سيدخلون كما دخلتها
أمم قد خلت من قلبهم فليسوا بدعاً، وليدخلوا معهم إلى المصير الذي يذهبون إليه،
وهم أمم خليط؛ لأن الكفر سوف يلتقي كله في الجزاء.
إن الاقتداء بالأمم التي سبقت هو الذي قادهم إلى
الكفر؛ فالأمم التي سبقت كانت أسوة في الضلال للأمة التي لحقت، فإذا ما دخلوا
لعنوهم.
وهب أن إنساناً دخل مرة السجن لجرم ارتكبه، وبعد ذلك
دخل عليه من كان
4132
يغربه بالجرم. ومن كان يزين له، ومن اقتدى به. بالله
ساعة يلتقيان في السجن ألا يلعن الأول الثاني؟ ﴿... كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ
لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حتى إِذَا اداركوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ
لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هؤلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النار
قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ ولكن لاَّ تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: ٣٨]
وبعد أن يلحق بعضهم بعضاً ويجتمعوا، يحدث بينهم هذا
الحوار العجيب: ﴿قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هؤلاء أَضَلُّونَا
فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النار... ﴾ [الأعراف: ٣٨]
فإن قلت الأخرى أي التي دخلت النار متأخرة كانت
الأولى هي القدوة في الضلال وقد سبقتهم إلى النار، ﴿قَالَتْ أُخْرَاهُمْ
لأُولاَهُمْ﴾، أي أن الأولى هم القادة الذين أضلوا، والطائفة الأخرى هم الأتباع
الذين قلدوا. ﴿قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هؤلاء أَضَلُّونَا﴾. وهم
يتوجهون بالكلام إلى ربنا: ﴿رَبَّنَا هؤلاء أَضَلُّونَا﴾.
كيف يتأتى هذا؟. وكان المقياس أن يقول: قالت أخراهم
لأولاهم أنتم أضللتمونا لكن جاء هذا القول، لأن الذين أضلوا غيرهم أهون من أن
يخاطبوا؛ لأن الموقف كله في يد الله، وإذا ما قالوا لله المواجه للجميع: ﴿هؤلاء
أَضَلُّونَا﴾ فهؤلاء، هذه رشارة إليهم، فكأن القول موجه لله شهادة منهم إلى من كان
وسيلة لإضلالهم وهم يقولون لربنا هذا حتى يأخذوا عذاب الضعف من النار مصداقاً
لقوله الحق: ﴿فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النار... ﴾ [الأعراف: ٣٨]
فقال لهم جميعاً: ﴿... لِكُلٍّ ضِعْفٌ ولكن لاَّ
تَعْلَمُونَ﴾.
4133
فلكل أمة منهم ضعف العذاب بما ضلت وأضلت. ونفهم أن
الضّعْف معناه «شيء مساوٍ لمثله»، فأنتم أيها المقلدون غيركم قد أضللتم سواكم
بالأسوة أيضاً؛ لأنكم كثرتم عددهم وقويتم شوكتهم وأغريتم الناس باتباعهم.
ويكون لكم ضعف العذاب بحكم أنكم أضللتم أيضاً، وأنتم
لا تعلمون أن من يحاسبكم دقيق في الحساب، ويعطي كل إنسان حقه تماماً.
وماذا تقول أولاهم لأخرهم؟ يقول الحق سبحانه:
﴿وَقَالَتْ أُولاَهُمْ لأُخْرَاهُمْ... ﴾
4134
ﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊ ﰦ
أي مادمتم ستأخذون ضعف العذاب مثلنا فقد تساوت
الرءوس ﴿فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ﴾ كأن المجرم نفسه ساعة يلتقي
ويستقبل مجرماً مثله، يقول له: اشرب من العذاب نفسه، وليس ذلك تجنياً من الله، ولا
بسلطة القهر لعباده، ولكن بعدالة الحكم؛ لأن ذلك إنما حدث بسبب ما كسبتم.
ومعلوم أن التذوق في الطعوم، فهل هم يأكلون العذاب؟.
لا، إنّ الحق قد جعل كل جارحة فيهم تذوق العذاب، والحق حين يريد شمول العذاب للجسم
يجعل لكل عضو في الجسم حساسية الذوق كالتي في اللسان.
ولذلك يقول الحق سبحانه: ﴿وَضَرَبَ الله مَثَلاً
قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ
مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف بِمَا
كَانُواْ يَصْنَعُونَ﴾ [النحل: ١١٢]
4134
وهذه هي الإذاقة، كأنها صارت لباساً من الجوع يشمل
الجسد كله، والإِذاقة أشد الإِدراكات تاثيراً، واللباس أشمل للجسد. ﴿فَذُوقُواْ
العذاب بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ﴾.
ولم يقل الحق: بما كنتم تكتسبون؛ لأن اكتسابهم
للسيئات لم يعد فيه افتعال، بل صار أمراً طبيعياً بالنسبة لهم، وعلى الرغم من أن
الأمر الطبيعي في التكوين أن يصنع الإنسان الحسنة دون تكلف ولا تصنع، وفي السيئات
يجاهد نفسه؛ لأن ذلك يحدث على غير ما طبع عليه، ولكن هؤلاء من فرط إدمانهم للسيئات
فسدت فطرتهم ولم تعد ملكاتهم تتضارب عند فعل السيئات، بل صاروا يرتكبون الإثم كأمر
طبيعي، وهذا هو الخطر الذي يحيق بالمسرفين على أنفسهم؛ لأن الواحد منهم يفرح بعمل
السيئات.
ويقول الحق بعد ذلك: ﴿إِنَّ الذين كَذَّبُواْ
بِآيَاتِنَا واستكبروا... ﴾
4135
ﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣ ﰧ
والحق يريد أن يعطي حكماً جديداً ويحدد من هو
المحكوم عليه ليعرف بجريمته، وهي جريمة غير معطوفة على سابقة لها، وليعرف كل إنسان
أن هذه جريمة، وأن من يرتكبها يلقى حكماً وعقاباً. ﴿إِنَّ الذين كَذَّبُواْ
بِآيَاتِنَا واستكبروا عَنْهَا﴾.
وقد عرفنا من قبل معنى الايات. وأنها ايات القرآن
المعجزة أو الايات الكونية، وأي إنسان يظن نفسه أكبر من أن يكون تابعاً لمنهج جاء
به رسول عرف بين قومه بأمانته، وهذا الانسان يستحق العقاب الشديد. فصحيح أن محمداً
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يكن له من الجاه ولا سلطان ما ينافس به
سادة وكبراء قريش، ولذلك وجدنا من يقول: ﴿وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن
على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ﴾ [الزخرف: ٣١]
4135
إنهم يعترفون بعلو القرآن، لكنهم تمنوا لو أن القرآن
قد نزل على إنسان غيره بشرط أن يكون من العظماء بمعاييرهم وموازينهم المادية.
ومن يكذب الايات ويستكبر عن اتباع الرسول لا تفتح له
أبواب السماء. ﴿إِنَّ الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا واستكبروا عَنْهَا لاَ
تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السمآء وَلاَ يَدْخُلُونَ الجنة حتى يَلِجَ الجمل فِي
سَمِّ الخياط وكذلك نَجْزِي المجرمين﴾ [الأعراف: ٤٠]
وبذلك نعرف من هم الذين لا تفتح لهم أبواب السماء،
وبطبيعة الحال نعرف أن المقابلين لهم هم الذين تفتح لهم أبواب السماء.. إنهم
المؤمنون، وحين تصعد أرواحهم إلى الملأ الأعلى تجد أعمالهم الصالحة تصعد وترتفع
بهم إلى أعلى. أما المكذبون فهم لا يترقون بل يهبطون ولا يدخلون الجنة، وقد علق
سبحانه دخول الجنة بمستحيل عقلاً وعادة وطبعاً: ﴿وَلاَ يَدْخُلُونَ الجنة حتى
يَلِجَ الجمل فِي سَمِّ الخياط﴾.
و ﴿سَمِّ الخياط﴾ هو ثقب الإبرة، أي الذي تدخل فيه
فتلة الخيط، ولا تدخل فتلة الخيط في الثقب إلا أن يكون قطر الفتلة أقل من قطر
الثقب، وأن تكون الفتلة من الصلابة بحيث تنفذ، وأن تكون الفتلة غير مستوية الطرف؛
لأنها إن كانت مقصوصة وأطرافها مستوية فهي لا تدخل في الثقب؛ لذلك نجد الخياط يجعل
للفتلة سناً ليدخلها في ثقب الإبرة.
وحين نأتي بالجمل ونقول له: ادخل في سم الخياط، فهل
يستطيع؟ طبعاً لا؛ لذلك نجد الحق سبحانه قد علق دخول هؤلاء الجنة على مستحيل.
بعض الناس قالوا: وما علاقة الجمل بسم الخياط؟
نقول: إن الجمل يطلق أيضاً على الحبل الغليظ المفتول
من حبال، مثل حبال المركب إننا نجده سميكاً مجدولاً.
وأخذ الشعراء هذه المسألة؛ ونجد واحداً منهم يصف
انشغاله بالحبيب وشوقه إليه وصبابته به حتى يهزل ويستبد به الضعف فيقول:
4136
ولو أن ما بي من جوى... وصبابةعلى جمل لم يدخل النار
كافر
لأن الجوى والصبابة التي يعاني منهما هذا الشاعر، لو
أصيب بهما الجمل فلسوف ينحف وينحف ويهزل، إلى أن يدخل في سم الخياط، وهنا يوضح
ربنا: إن دخل الجمل في سم الخياط فسوف أدخلهم الجنة. ﴿... حتى يَلِجَ الجمل فِي
سَمِّ الخياط وكذلك نَجْزِي المجرمين﴾ [الأعراف: ٤٠]
وهم يستحقون هذا الجزاء بما أجرموا.
ويقول الحق بعد ذلك: ﴿لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ
وَمِن فَوْقِهِمْ... ﴾
4137
ﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯ ﰨ
المهاد هو الفراش، ومنه مهد الطفل، والغاشية هي
الغطاء، أي أن فرش هذا المهاد وغطاءه جهنم. وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه وتعالى:
﴿لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النار وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ... ﴾ [الزمر:
١٦]
إذن الظلل والغواشي تغطي جهتين في التكوين البعدي
للإِنسان، والأبعاد ستة وهي: الأمام والخلف، واليمين والشمال، والفوق والتحت،
والمهاد يشير إلى التحتية، والغواشي تشير إلى الفوقية، وكذلك الظلل من النار، ولكن
الحق شاء أن يجعل جهنم تحيط بأبعاد الكافر الستة فيقول سبحانه: ﴿إِنَّا
أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا... ﴾ [الكهف: ٢٩]
4137
وهذا يعني شمول العذاب لجميع اتجاهات الظالمين.
وجهنم مأخوذة من الجهومة وهي الشيء المخوف العابس
الكريه الوجه، ثم يأتي بالمقابل ليشحن النفس بكراهية ذلك الموقف، ويحبب إلى النفس
المقابل لمثل هذا الموقف، فيقول سبحانه: ﴿والذين آمَنُواْ... ﴾
4138
ﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡ ﰩ
وبهذا يخبرنا الحق أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات
هم أصحاب الجنة وهم فيها خالدون، ويضع لنا الحق تنبيهاً بين مقدمة الآية وتذييلها
﴿لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ ؛ لنفهم أن المسرفين على أنفسهم بالكفر
وتكذيب الآيات لم يفهموا حقيقة الإِيمان، وأن حبس النفس عن كثير من شهواتها هو في
مقدور النفس وليس فوق طاقتها؛ لذلك أوضح لنا سبحانه أنه كلف ب «افعل ولا تفعل»
وذلك في حدود وسع المكلَّف.
وحين نستعرض الصورة إِجمالاً للمقارنة والموازنة بين
أهل النار وأهل الجنة نجد الحق قد قال في أهل النار: ﴿إِنَّ الذين كَذَّبُواْ
بِآيَاتِنَا واستكبروا عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السمآء وَلاَ
يَدْخُلُونَ الجنة حتى يَلِجَ الجمل فِي سَمِّ الخياط وكذلك نَجْزِي المجرمين﴾
[الأعراف: ٤٠]
فهم لن يدخلوا الجنة، وعلى ذلك فقد سلب منهم نفعاً،
ولا يتوقف الأمر على ذلك، ولكنهم يدخلون النار، إذن فهنا أمران: سلب النافع وهو
دخولهم الجنة، إنه سبحانه حرمهم ومنعهم ذلك النعيم، وذلك جزاء إجرامهم. وبعد ذلك
كان إدخالهم النار، وهذا جزاء آخر؛ فقال الحق:
4138
﴿لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ
غَوَاشٍ وكذلك نَجْزِي الظالمين﴾ [الأعراف: ٤١]
في الأولى قال: - سبحانه - ﴿وكذلك نَجْزِي المجرمين﴾.
وفي الثانية قال: ﴿وكذلك نَجْزِي الظالمين﴾.
فكأن الإجرام كان سبباً في ألا يدخلوا الجنة، والظلم
كان سبباً في أن يكون من فوقهم غواش، لهم من جهنم مهاد، وهم في النار يحيطهم
سرداقها.
ومن المناسب بعد تلك الشحنة التي تكرهنا في أصحاب
النار وفي سوء تصرفهم فيما كلفوا به أولاً، وسبب بشاعة جزائهم ثانياً؛ أن نتلهف
على المقابل. فقال سبحانه: ﴿والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لاَ نُكَلِّفُ
نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا أولئك أَصْحَابُ الجنة هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾
[الأعراف: ٤٢]
وقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً
إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ جاء بين المبتدأ والخبر، ككلام اعتراضي؛ لأن أسلوب يقتضي
إبلاغنا أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم الخلود في الجنة، وجاءت ﴿لاَ
نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ بين العمدتين وهما المبتدأ والخبر؛ لأننا
حينما نسمع ﴿والذين آمَنُواْ﴾ فهذا عمل قلبي، ونسمع بعده ﴿وَعَمِلُواْ الصالحات﴾
وهذا عمل الجوارح، وبذلك أي بعمل القلب مع عمل الجوارح يتحقق من السلوك ما يتفق مع
العقيدة. والاعتقاد هو يسهل دائما السلوك الإيماني ويجعل مشاق التكاليف في الأعمال
الصالحة مقبولة وهينة، ولذلك أوضح سبحانه: إياكم أن تظنوا أني قد كلفتكم فوق
طاقتكم، لا؛ فأنا لا أكلف إلا ما في الوسع، وإياكم أن تفهموا قولي: ﴿والذين
آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات﴾ هو رغبة في إرهاق نفوسكم، ولكن ذلك في قدرتكم
لأنني المشرع، والمشرع إنما يضع التكليف في وسع المكلَّف.
ونحن في حياتنا العملية نصنع ذلك؛ فنجد المهندس الذي
يصمم آلة يخبرنا عن مدى قدرتها، فلا يحملها فوق طاقتها وإلا تفسد.